دمشق-سانا
شكل الفنان الراحل عبد الحليم حافظ ظاهرة فنية فريدة مازالت مستمرة حتى يومنا هذا رغم مرور ثمانية وثلاثين عاما على رحيله عن عالم الغناء العربي حيث استطاع أن يبني لنفسه قاعدة جماهيرية تخطت كل الأجيال وحتى زمانه ومكانه فهو مازال إلى اليوم الرقم الصعب والمنافس الأقوى لكل نجوم الغناء العربي على تعددهم وتنوعهم.
العندليب الأسمر المولود في 21حزيران من عام 1929 مازال حتى اليوم يحتل المراتب الأولى في سباق الأغاني كما أن أغانيه التي تعدت 230 أغنية منوعة بين عاطفية ووطنية تحقق أعلى المبيعات في سوق الأغنية العربية ما يجعل شركات الانتاج الفني تعيد تسويقها من فترة لأخرى بقوالب جديدة ضمن البومات غنائية وهذا ينافس الألبومات الغنائية الجديدة لأهم نجوم الغناء العرب.
عبد الحليم حافظ ظاهرة فنية استثنائية كسرت كل الحواجز وتخطت كل العقبات التي اعترضتها منذ بداياتها عام 1951 مع أغنية لقاء من كلمات صلاح عبد الصبور والحان كمال الطويل اتسمت دائما بطرح الجديد في الاغنية العربية من ناحية الكلمة واللحن بعد أن سادت لقرون من قبلها اغنية القصيدة والقوالب الموسيقية السماعية الثقيلة والزخرفة والاستعراض في الأداء الغنائي والجمل الموسيقية في النمط الغنائي الكلاسيكي ورغم عدم امتلاك عبد الحليم لصوت ضخم بمقاييس المطربين في زمنه إلا أن إحساسه العالي بما يقدم واعتماده على صوت حقيقي وموهبة التعبير مع الالتزام باللحن بعيدا عن الزخارف الصوتية اثناء الغناء إلى جانب إيمانه العميق بأهمية ما يقدمه وطموحه أوصلته جميعها لقلوب الملايين دون منافسة من احد.
عبد الحليم شبانة درس في معهد الموسيقا العربية وتخرج فيه عام 1948 مع صديق عمره وشريكه الفني الملحن كمال الطويل أخذ لقبه من الاعلامي حافظ عبد الوهاب الذي قدمه في الإذاعة المصرية لأول مرة عام 1951 ورغم رفض الجمهور للون الغنائي الذي قدمه في البداية لم ييئس فاستمر وأعاد تقديم أغنية صافيني مرة من تلحين محمد الموجي أمام جمهور القاهرة عام 1953 فحققت نجاحا كبيرا بعد فشلها امام جمهور الاسكندرية قبلها بعامين واستمر بعدها نجاحه مع اغان من ذات الأسلوب في الكلمة واللحن مثل على قد الشوق وأغاني فيلمه السينمائي الأول لحن الوفاء فاستحق لقب العندليب الأسمر.
لحن للعندليب مجموعة من أهم الملحنين في عصره كالموسيقار محمد عبد الوهاب فقدم له أغاني أهواك /نبتدي منين الحكاية/ فاتت جنبنا وغيرها وقدم له الملحن العبقري بليغ حمدي عددا من الأغاني الناجحة أيضا مثل زي الهوا /سواح /حاول تفتكرني /أي دمعة حزن لا /موعود وغيرها الى جانب عدد كبير من الأغاني من الحان كمال الطويل وبعض الأغاني من تلحين منير مراد ومحمود الشريف ومحمد الموجي الذي لحن له رائعة نزار قباني قارئة الفنجان.
رغم كل النجاح والشهرة التي حققها عبد الحليم في مشواره الفني القصير نسبيا إلا أن حياته لم تكن سعيدة وبقيت معاناته الكبيرة مع المرض بعيدة عن الجمهور ولم يشرك أحدا معه في آلامه وأحزانه فعاش وحيدا دون زواج وأجرى خلال عمره الذي لم يتعد الثمانية والأربعين عاما نحو 61 عملا جراحيا بسبب البلهاريسيا التي نهشت أمعاءه من عمر الطفولة حين دخلت جوفه جراء السباحة في الترعة بقرية الحلوات في محافظة الشرقية التي كان يعيش فيها يتيم الأب والأم عند بيت جده.
هذا المرض تسبب له بكثير من الآلام والوجع والحزن وكان سببا رئيسيا في وفاته في 30 آذار عام 1977 في مشفى بلندن بعد أن توقف كبده عن العمل بسبب جرثومة من عملية نقل دم فرحل بصمت وأبكى الملايين من المحيط للخليج وخرج في جنازته ما تجاوز مليونين ونصف المليون شخص بموكب مهيب لم تشهد مصر له مثيلا.
يجمع عدد من الباحثين الموسيقيين العرب على أن نجاح عبد الحليم حافظ منذ بداية مشواره وحتى رحيله جاء نظرا لعدة عوامل فنية تجسدت في صوته وإحساسه المميزين وأسلوبه الغنائي الجديد في عصره والحانه السريعة المعتمدة على الجمل الموسيقية القصيرة مع إدخال آلات موسيقية جديدة كالآلات الكهربائية ما شكل ثورة موسيقية في وقتها الى جانب ثقافته الموسيقية العالية وذكائه في اختيار الأغاني والأشخاص الذين عمل معهم مع تضافر عدة عوامل ساعدت على تسويق هذا النمط الغنائي الجديد وتقبله من الجمهور المصري والعربي مثل صعود الطبقة الاجتماعية المتوسطة المتعلمة في المجتمع المصري مع ثورة تموز عام 1952 ودخول أفكار فنية ثورية جديدة على الحياة في مصر.
كما أن التزام العندليب الأسمر مناصرة الثورة والتغني بمكاسبها إلى جانب الأغاني الوطنية المميزة التي كان يقدمها باستمرار ساعد على فتح كل الأبواب أمامه خاصة مع تطور وسائل الإعلام والسينما فقدم 16 فيلما كان فيها البطل الغنائي الأبرز والوحيد في اغلبها.
ولأن الفنان هو مجموعة من العوامل الشخصية والاجتماعية والفنية المتفردة والمجتمعة والتي يحكمها سياق زماني ومكاني محدد فإن عبد الحليم حافظ كان ومازال الفنان المتفرد الذي لم ولن يتكرر فهو شق طريقا فنيا خاصا به ولم يقلد أحدا ممن سبقوه أو عاصروه وهو الذي يسعى اغلب النجوم والمطربين العرب منذ عقود أن يقتربوا من الهالة الفنية الكبيرة التي امتلكها بتقليده تارة وإعادة تقديم اغانيه تارة أخرى أو النهل من مدرسته الغنائية ولكن ورغم كل ما يقدم حتى اليوم بقي هو المتصدر لقوائم المطربين العرب وتخطى بفنه كل زمان ومكان متفوقا على كل من أرادوا منافسته في الماضي أو في الحاضر وستبقى اغانيه تأشيرة الدخول لعالم الفن لكل المغنين والمطربين الجدد عسى أن تكون شفيعة لهم ليكسبوا رضا الجمهور واستحسانه.
محمد سمير طحان