بدأ المشروع الصهيوني التطبيق على الأرض، معتمداً على قوى قادرة، ارتبط معها بأحلاف مصالح استراتيجية تحقق لهما السيطرة على «سوق استهلاكية مثلى، ومصادر ثروات مهمّة، كالبترول والماء والمعادن والتربة والمناخ والأيدي العاملة الرخيصة» تشكل بمجموعها حاجة ملحّة وأساسية للسيطرة على العالم.
بدأ الأمر مع بريطانيا «سبب مصائب العالم» عندما كانت عظمى، وانتقل مع تبدّل مواقع القوى العالمية إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. تبدّل الشكل فقط، وامتدّت ساحة صراعنا الوجودي مع الصهيونية، إلى صراع مع وافد جديد من نوعه تاريخياً وعلى المدى المنظور من الحضارات المتعاقبة.
فقد تساوى دور الجلاّد ورسول السلام في الظهور والممارسة، فنحن اليوم أمام شكل دولة عظمى بكل المقاييس، تحمل لواء السلام، وتنادي على تحقيقه، تتشدّق بالديمقراطية وفضائلها، وتنصّب نفسها حكماً بين خصمين تاريخيين، صراعهما ثقافي وتاريخي وأخلاقي ووجودي، الحق فيه بيّن لا يقبل اللبس والتأويل، ثم تحاصرنا بكل أشكال الحصارات الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية والدوائية والعسكرية، وتعمل على حرماننا من أبسط متطلّبات الحياة، والأمثلة أكثر من أن تحصى في فلسطين «قضية العرب المركزيّة»، وفي العراق والسودان وليبيا ولبنان والصومال، وفي سورية وما يجري فيها من أحداث مأساوية لم يحدث مثلها على مدى التاريخ، وفي الوقت نفسه تعطي الخصم «إسرائيل» كل شيء من الرغيف وحتى أرقى أنواع الأسلحة الفتّاكة، والدعم السياسي متمثّلاً بعشرات «الفيتو» ضدّ أي إجماع دولي منصف، من خلال سيطرتها المطلقة على أكثر المحافل الدولية الفاعلة، ولو راجعنا أكداس القرارات المحفوظة في مكاتب هيئة الأمم ومجلس الأمن المطالبة بالحدّ الأدنى من الحقّ، لوجدنا بأن الفئران وسوس الخزن قد التهمت أنصافها، بل وبدّلتها إلى تأييد مطلق للطرف الباغي الذي يرفع بلا خجل شعاره الشهير أمام العالم، ومن «الصقور والحمائم» على حد سواء بأن «العربي الجيد، هو العربي الميت»..
وأعود قليلاً إلى وقت ذهب فيه «باراك» إلى شرم الشيخ الأول لتوقيع اتفاق خرج عن اتفاق سابق قال:
(أشعر بالحزن الشديد لأنني سأوقّع تنازلاً للفلسطينيين عن أرض لـ«إسرائيل»).
لقد مرّت على بلادنا قومياً «فنحن بالمحصّلة أمّة عربية واحدة» ومنذ قبل الميلاد ثقافات غازية أكثر من أن تحصى، مارست علينا أقصى ما تستطيع من أشكال القمع وتطبيق عنصرية العرق المفرطة بالحدّة لكنها لم تتمكّن من العبث قيد شعرة بأهم ركائز حضارتنا، لغتنا العربية التي كرّمها الله سبحانه فكانت لغة القرآن الكريم، هذه اللغة الأساس، إضافة لعوامل أخرى مهمّة كالأرض والتاريخ المشترك والقيم والعادات والدين والمناخ وطبيعة العلاقات… الخ تجمعنا تحت مظلّة واحدة رغم تقسيمات سايكس بيكو المفتعلة والتي يساهم البعض بتعميق تضاريسها بعيداً عن تطلّعات وأماني الشعب الواحد، تكريساً فجّاً لمصالح آنية لا بد أن تزول، لأن الهيكلية الأساسية للأمّة والقومية العربية الجامعة، مرتكز قوتنا باقٍ على الساحة ببعديه «الأرض والشعب»..
بقلم: عدنان كنفاني