من المنطقي والمفهوم أن تعلن الخارجية الأمريكية أن واشنطن ودمشق ليستا في نفس الخندق العسكري والاستخباراتي والأمني في قتالهما لتنظيم «داعش» الإرهابي.
وهذا من المنطقي لأن دمشق تحارب الإرهاب كمشروع كامل تقاربه من جذوره التأسيسية وتسعى إلى استئصاله من العقل قبل الفضاء الاجتماعي والاتصالي وتضربه في العمق عبر طرح البديل الثقافي والحضاري والديني لإيديولوجيات التكفير والتفجير، بينما لا تزال واشنطن تتعامل مع الظاهرة الإرهابية من زاوية براغماتية بحتة تقوم على توظيفها لاستهداف أعدائها دون المساس بالخطوط الحمراء التي ينص عليها الاتفاق الصامت بين أمراء السلاح والقتال من جهة أولى وأباطرة البيت الأبيض من جهة ثانية.
من هنا نفهم الانقلاب الدراماتيكي لواشنطن حيال «طالبان» وإرهابيي «القاعدة» من ضفة التبني العسكري والسياسي وتشبيههم بالنخبة المؤسسة للولايات المتحدة الأمريكية إبان قتالهم للاتحاد السوفييتي في أفغانستان، إلى ضفة محاربتهم ومطاردتهم في جبال وكهوف قندهار وتورا بورا في أفغانستان سنة 2001، وهو انقلاب حصل عندما باتت القاعدة تهدد شيئاً من الأمن القومي الأمريكي.
التغيير ذاته حصل في سورية أيضاً وبدأ من التأييد الكامل لتسليح ميليشيات وغض النظر عن مسالك توريد السلاح وعن سبل إدخال السلاح الخفيف والثقيل والمتوسط إلى سورية بل وتنبيه وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون الميليشيات الإرهابية إلى ضرورة عدم تسليم أسلحتها إلى الدولة السورية، وانتهى إلى إعلان الرئيس الأمريكي باراك أوباما مؤخراً الحرب على التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها «داعش» وذلك بعد أن وصلت جحافله المقاتلة إلى أربيل وبات على مقربة من «درة تاج» المشروع الأمريكي في المنطقة.
تتعامل واشنطن مع جحافل الإرهابيين بطريقة خبيثة وحصيفة في آن، فهم عرّابو تدخلها في المنطقة العربية ومسوغات استباحتها للأقطار العربية وهم أيضاً وصفة «الدولة الفاشلة» في الأقاليم التي تسعى واشنطن إلى بسط سيطرتها وهيمنتها عليها.
في المحصلة كلاهما مقدمة ونتيجة للآخر، والعلاقة القائمة بينهما هي علاقة حتمية عضوية سببية فلا الولايات المتحدة بمقدورها تأمين وجودها في المنطقة العربية وضمان استمراريته وتوسعه دون خطر «داعش» والمجموعات الإرهابية الأخرى، ولا الأخيرة بإمكانها أن تفرّخ نارها وأوارها دون وقود «كاذب» من العداء للغرب.
بهذا المنطق يكون استبعاد واشنطن التعامل والتعاون الثنائي مع دمشق ضمن استراتيجية موحدة مجابهة للتنظيم، فعلاً غير مجانب للصواب ولا مجاف لمنطق الأمور وصيرورة تشكلها في الشرق الأوسط.
اللافت للانتباه في ذات السياق، أن معادلة الصمود السورية القائمة على رباعية الجيش والشعب والمقاومة والقيادة مكنت الدولة من استحثاث مقدرات التحدي الداخلي دون أي استدرار أو استدعاء للتدخل الأجنبي طوال ثلاث سنوات ونيف على الرغم من مجابهتها لعشرات الآلاف من «الجهاديين» ومقاومتها لحصار اقتصادي وسياسي وإعلامي وحتى ديني -مؤخراً عبر منع الحجاج السوريين من أداء مناسك الحج والعمرة هذا العام- في حين أن بلدانا أخرى – مثل العراق وليبيا – وضعت الولايات المتحدة أياديها على مؤسستها العسكرية والأمنية طوال سنوات ولم تقدر على الصمود حيال مئات من المقاتلين التكفيريين وأطلقت عقيرتها ل-«السيد» الأمريكي ول-«النبيل» الأوروبي للتدخل العسكري الفوري لإنقاذ شعبها من تتار العصر ولتأمين الحماية لعاصمتها السياسية من مغول العصر.
ليبيا والعراق عجزا عن الوصول إلى «شيفرة» صمود داخلي وتحد خارجي على الرغم من جميع المساعدات المالية والعسكرية واللوجستية المتقاطرة عليهما من بعد إسقاط نظاميهما السياسيين وتفتت مؤسسات الدولة وتفكيك المقدرات الوطنية.
وهي كلها مقدمات لنهايات منطقية بأن الدولة الوطنية ذات المشروع السيادي وذات الاستقلالية الاقتصادية والسياسية هي القاطرة لكل المقاومة وهي الحاضنة لكل صمود وأن الدول القائمة على استباحة الأوطان والمبنية على فتات المعونات الاقتصادية والعسكرية تحت مسميات مؤتمرات الأصدقاء ومنتديات إعادة الإعمار هي أعجز عن استرداد الهيبة ناهيك عن دفع الأخطار الداخلية والخارجية.
وهي مقدمات لا تبغي الوصول إلى التماهي مع السلطة في كافة الخيارات والتحول إلى إمعة في القرار والخيار وإنما ترمي إلى التأكيد بأن الدولة المستقلة هي رافعة الإصلاح وهي حاملة السلاح وفي الحالتين هي ضمان الأمن والاستقرار والتغيير والتحرير أيضاً.
بكل ما سبق نفهم أسباب الانفصال السوري- الأمريكي في الميدان القتالي وتستكنه مراجع التباين العسكري حتى عند قتال عدو مشترك، فهما خطان متوازيان لا يتقاطعان حتى وإن التقيا في مقارعة الدواعش.
بقلم: أمين بن مسعود “كاتب تونسي”