الشريط الإخباري

مراجعات الوقت بعد الضائع

تعلو الأصوات الخائبة وبعضها وصلت إليه حالة الهلع من تفشي الإرهاب وتلويح التنظيمات الإرهابية بساطورها، حتى لو كان تلويحاً للاستهلاك الإعلامي أو لإثارة الغبار والتعمية، في حين تتسع دائرة المخاوف في البقع الخليجية المتناثرة وعلى أطراف المشيخات وفي كنف الأسر الحاكمة مما هو قادم.‏
ومعها تعلو الدعوات إلى المراجعة ولم تتردد في استخدام «التكويع» كدلالة على تغيير كلي في الاتجاه والموقف، علماً بأن أصل المفردة المعجمي لا ينحو بشكل قاطع بذلك، وتترافق في أغلب الأحيان بكثير من الادعاء الأجوف، ولا تتحرج من الاستعارة الشعاراتية التي تشدقت بها على مدى السنوات الماضية.‏
في المبدأ .. لا تكفي أن تأخذ المراجعات اللفظية طريقها إلى العلن كي ننتظر ما بعدها، خصوصاً أنها تراوح في مكانها وأغلبها يأتي في إطار التمنيات!! في مؤشر واضح على أنها ستظل تكراراً للاجترار بعد فوات الأوان وفي الوقت بعد الضائع، حيث تكتسح الآراء والمواقف الباحثة عن نافذة لمراجعة ما اتخذته على عجل، ولا يتردد بعضها في نفض اليدين من كل ما سبق أن غاصت في أوحاله.‏
الأمر ليس للمداعبة السياسية، ولا هو نتاج فعل آني أو ردة فعل على متغيرات كاسحة تجتاح المنطقة وحسابات المشاريع المتصارعة فيها وانقلاب المعادلات التقليدية، بل في جوهره يلامس حقائق تطفو على سطح المزاج الشعبي المتأخر بحكم مرحلة الاستلاب السائدة في التقاط اللحظة، أو التعبير عن الحاجة لاستراحة يسترد خلالها أنفاسه التي تقطعت على وقع ما يجري من انزياحات استراتيجية وديمغرافية وجغرافية.‏
فالحديث الساخن في مشيخات الخليج ولدى أوساط بالغت في التشفي مما يجري في البلدان العربية الأخرى، لا يعود في جذره إلى صحوة مفاجئة على الضمائر أو العقول، ولا إلى صدمة مؤقتة أو دائمة ناتجة عن النتائج غير المحسوبة، بقدر ما يمثل هواجس هلع مما هو قادم بعد أن وصلت الأمور إلى حافة الاشتعال التي تقتضي كسراً قسرياً لحدود سايكس بيكو، وإن كانت من فعل تنظيمات تربّت وترعرعت في الحضن الخليجي، وعاشت من ماله وتنعمت بدعمه واحتضانه.‏
وفي جوهرها .. لا نعتقد أن المراجعة بحد ذاتها وليدة رغبة ذاتية، بقدر ما أملتها الظروف الموضوعية الناتجة عن التداعيات الأكثر خطورة حيال ما يجري على امتداد المنطقة، بدليل أن الدوافع لا تأتي في سياق التحضير لمواقف مختلفة أو التمهيد لمقاربات مغايرة، ولا هي محاولة للضغط على حكومات مشيخاتها للخروج من عنق التورط في العلاقة مع التنظيمات الإرهابية التي لبستها من رأسها حتى أخمص قدميها، وقد فات أوان التوبة، وبات الاستدراك عملية معقدة وصعبة وربما هي غير ممكنة ولا متاحة.‏
الأدهى أن الصحوة في نهاية المطاف تبرئة ذمة متأخرة، ومحاولة يائسة لتبييض صفحات متخمة بسواد وظلامية ما اقترفته التنظيمات الإرهابية التي تحركت وفق مشيئة واضحة وصريحة من تلك المشيخات، وبالتالي فإن الانقلاب في الحسابات لا يبرر ولا يشرّع البوابات المفتوحة على مصراعيها أمام تحولات خطيرة باتت المشيخات جزءاً منها وعلى جبهة النار المفتوحة وداخل خطوط الاشتباك بشكل مباشر.‏
لسنا بوارد النقاش في المبررات والمسوغات، لكن هذا لا يعني أن الهواجس والمخاوف التي استفاقت عليها المشيخات، وتحديداً ما يشتعل منها في الشرائح الشعبية -حيث لا أمل في النخب التي استباحت المحرمات بمختلف شرائحها- كانت خارج المعادلة التي فرضت إحداثيات السياسة، وقد لمسنا في كثير من الأحيان حالة من التمني الممزوج بمرارة الاعتراف، لكنه جاء مغرقاً في توريته وكذبه ونفاقه.‏
الحال لدى بقية الأطراف ليس أفضل، وقد وصلت إليه شرارات الهلع بعد أن سبقتها في ذلك دول أوروبية كانت تبحث عن موطئ قدم في المشروع الذي تتوالى الاعترافات بالأصابع المتورمة التي تنبش على هامشه، وفي الصفحات المواربة التي تسطرها بعد فوات الآوان، مثلها في ذلك مثل المراجعات القادمة إلينا في الوقت بعد الضائع، حيث لا تنفع معها توبة، ولا تغير فيها إعادة اصطفاف وقد انتهت صلاحية استخدامها أو توظيفها.!!‏
بقلم: علي قاسم