بين الرغبة والقدرة-صحيفة البعث

ربما كان الفرق بين الرغبة والقدرة هو ما يحكم بعض ما نراه حولنا من مؤشّرات عدة على إمكانية ما لاستئناف السياسة، وإعلاء شأنها على الحرب في حل قضايا المنطقة المتعددة، وأبعد من ذلك، ربما هو أيضاً ما يحكم أو يسرّع في عملية الانتقال، التي نتابع تجلياتها وخطواتها المتلاحقة، من نظام عالمي إلى نظام عالمي آخر.

والحال فإن هذا الفرق تحديداً هو ما صنع شكل الحرب على سورية، وأجج لهيبها وأطال أمدها، لكنه هو أيضاً ما يفسّر تحوّلاتها الحالية وبدء البعض في عملية تراجعاته الفعلية عن مواقفه السابقة تحت تغطية قصف كلامي وإعلامي كثيف.

ففيما كانت رغبة أطراف الحرب على سورية إركاعها واستتباعها، وهو ما قاله بعضهم علناً، ومنذ البداية، عن ضرورة وحتمية نقل سورية الجديدة من محور إلى آخر، لاستكمال السيطرة الأمريكية-الإسرائيلية على المنطقة بالكامل، كان لعدم قدرتهم على تنفيذ ذلك، بالرغم من كل الموارد المادية والمعنوية التي استُخدِمت، بل وربما بسببها، أن تجاوز آثار فشلهم الموضوع السوري ليصل إلى حد زعزعة أسس النظام العالمي القائم، خاصة بعد أن اعتنقوا، عن قناعة أو انتهازية، منطق الصراع الشامل والإلغائي الطابع الذي تختزنه الحروب الدينية، وهو المنطق الذي استخدموه سابقاً في أفغانستان، متجاهلين الدروس الكارثية التي نجمت عنه، وبالتالي ضربوا عرض الحائط، مرة جديدة، بمبدأ سيادة الدولة وعدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية، وهو المبدأ المؤسس، ولو نظرياً، للنظام العالمي المعاصر.

وبهذا الإطار فهم قد أعطوا الحق لمن يرغب، ويمتلك القدرة، على فعل ذلك، ومن يرغب ويمتلك القدرة في عالمنا المعاصر ليس سوى الإرهاب المدجج بالنزعات «الخلاصية المقدسّة»، وللتذكير، فإن هذه النزعات هي التي دمّرت أوروبا قبل أن يكتب، “رجال متبصّرون”، بتوصيف هنري كيسنجر، صلح “ويستفاليا” الذي صاغ نظاماً عالمياً جديداً في حينها تحكمه قواعد وقيم، تمثلت لاحقاً بمبادئ الأمم المتحدة، هي التي تحدد، ولو نظرياً مرة أخرى، السلوك الشرعي والمقبول.

بهذا المعنى لا يبدو “داعش” إلا كـ “ابن شرعي” لخروجهم الفاجر على هذه القواعد والقيم المشروعة التي دمّرت ليبيا وقبلها العراق، كما لا يبدو العدوان السعودي العبثي الإجرامي “الجاهلي” على اليمن إلّا نتيجة طبيعية لامتزاج غياب القواعد والقيم العالمية، وبالتالي انعدام المحاسبة الجدية، مع عدم التناسب بين الرغبة في استلحاق اليمن وإركاعه والقدرة على ذلك عند العائلة القروسطية، التي تحكم أرض نجد والحجاز.

وبالعكس مما سبق، فإن الالتزام بالقواعد والقيم المشروعة واحترام إرادة الشعوب وسيادة الدول هو ما يمنح دولة شقيقة مثل سلطنة عمان، التي كان وزيرها للشؤون الخارجية في ضيافة دمشق بالأمس، دوراً ذا صدقية عربية وعالمية، كما أن هذا الالتزام المتزامن مع التناسب بين الرغبة والقدرة، والذي تجلّى في التدخّل “المتبصّر” الروسي العسكري والسياسي في سورية لمساندتها في حربها ضد الإرهاب، هو ما سيطرح كتابة تاريخ جديد، لأن هذه الحرب، كما قال الرئيس الأسد: “ستحدد مستقبل المنطقة والعالم والانتصار ضد الإرهاب سيحمي ليس سورية فقط، بل جميع الدول”.

خلاصة القول، بين القدرة والرغبة تبقى الكلمة الأولى والأخيرة للقدرة، ما يعني للميدان تحديداً، فهناك تُرسم الحلول وتُحدد المسارات وتُكتب النهايات، أما الراغبون من دون قدرة، فلديهم منابر الإعلام ليصولوا ويجولوا عليها بعنتريات “جبيرية”، وسيوف “حمدية” خشبية ما زال أحدهم يعتقد أن بإمكانه استخدامها في وجه “عاصفة السوخوي” الراهنة.

بقلم: أحمد حسن