الشريط الإخباري

(الحكواتي) دراما الزمن الجميل وونيس السهرات الرمضانية

دمشق-سانا

ليست الصورة التي يقدمها لنا الفضاء المرئي عبر قنواته التي تتنافس بقوة على العرض الأول لأعمالها الدرامية في رمضان سوى تطور طبيعي لفن بدأ قبل أكثر من مئة عام، قام على الحكاية مستعيناً بجهود بطل أوحد هو الحكواتي، فكيف بدأ فن الحكواتي ؟

يؤنس ليالي رمضان

الحكواتي أو الراوي أو القصّاص أو القاصّ، حسب التعاريف هو شخص امتهن سرد القصص في المنازل والمحال والمقاهي، كان يحتشد حوله الناس قديماً، فلا يكتفي بسرد أحداث القصة بتفاعلٍ دائم مع جمهوره، بل يدفعه الحماس لأن يجسّد دور الشخصية التي يحكي عنها بالحركة والصوت.

والحكواتي مهنة كانت تعتمد على شخصية واحدة هي شخصية الحكاء، فكانت تمتلك كنزها الخاص في التنوع والاختلاف، وهي تجوب الأرجاء للشخصية السيكولوجية في كل النواحي وتعتمد المد والإطالة بالقصة بحيث تتحول إلى مسلسل ليلي يمكن له أن يغطي أيام شهر رمضان.

المقاهي الشعبية مسرحاً للحكواتي

الحكواتي بصوته وصورته هو الونيس للسهرات الرمضانية بما يرويه من السير الشعبية وحكايات البطولة والرجولة أمام جمع من الناس في المقاهي الشعبيّة، حيث بين محمد خير كيلاني الذي جسد على مدى ثلاثين عاماً دور الحكواتي في السهرات الرمضانية الحمصية أن المقاهي الشعبية كانت مركزاً للحكواتي فارتبطت حكاياته بالشهر الفضيل ويتذكرها الكبار من أبناء المدينة عندما كانوا يحتشدون حوله في المقهى، يتابعون باهتمام حركاته وتفاعله مع سرد أحداث القصّة وتجسيد دور شخصياتها أحياناً.

والحكواتي شخصية حسب ما أضاف كيلاني كانت قديما تعد من وسائل التسلية الجماعية والتثقيفية لما تتناوله قصصه الواقعية والخيالية من بطولات وتعزيز القيم الأخلاقية والسلوكيات الإيجابية، لافتاً إلى أشهر الحكايات المعروفة (عنترة والزير سالم وذات الهمة وتغريبة بني هلال) وغيرها.

أصل الحكاية الشعبية

الشرق بسحره وعراقته كان منبعاً للحكايات الشعبية كما تشير معظم الدراسات والأبحاث في مجال تاريخ نشوء الحكاية الشعبية، وتختلف الآراء بين من يعتبر الشرق العربي منبع الحكاية وأصلها كما عند البابليين والأشوريين والفراعنة، وبين من يعد بلاد فارس والهند هي أصل الحكاية، ثم انتقلت منها إلى بلاد ما بين النهرين وفقا لما جاء في كتاب الحكاية الشعبية بين الماضي والحاضر لمصطفى محمد علي الصوفي.

وعُرفت الحكاية الشعبية في التراث العربي في وقت مبكر، إذ تحتشد كتب الطبري والأصفهاني والمسعودي وابن كثير وغيرهم بالكثير من هذه الحكايات التي عرفت في العصر الجاهلي وما تلاه فامتزجت فيها المأثورات وأخبار الملوك، فضلاً عما ترسب في الذاكرة الجماعية من أخبار ووقائع قديمة.

وتشكلت في البدايات في أوساط العامة فلم يعتن بها أحد من الخاصة، إلا بوصفها نوعاً من الأسمار اللطيفة، وفي القرن الثاني الهجري استأثرت باهتمام الإخباريين والشعراء والكتاب، وخاصة في العصر العباسي حيث ترجم ابن المقفع كتاب (كليلة ودمنة) وازداد الاهتمام بالأمر في القرنين الثالث والرابع، وذكر المؤرخ حمزة الأصفهاني أنه كان في عصره من كُتب السمر التي تتداولها الأيدي ما يقرب من سبعين كتاباً، كذلك ظهرت كتب حول أحاديث (السندباد) و(السنور والفأر) في المدة التي جرى فيها نقاش واسع حول دخول حكايات (ألف ليلة وليلة) في الموروث العربي.

الحكواتي مهنة لا تموت في دمشق

في عام 1990 قام رشيد الحلاق الحكواتي الدمشقي بإعادة إحياء مهنة الحكواتي بمقهى (النوفرة) وبطلب من صاحب المقهى أبو صالح الرباط الجد وأرباب الشعائر الدينية، حيث قرروا تقديمها بعد صلاة المغرب حتى أذان العشاء على أن تقدم في رمضان بعد صلاة التراويح.

حكواتي الشام رشيد الحلاق بدأ مسيرة فن الحكواتي للتراث الثقافي اللامادي منذ عام 1990 واستمر حتى عام 2014  بمقهى النوفرة وكان يقدم القصص التي تجمع بين العبر والتوعية حيث تناول  قصة الملك الظاهر بيبرس وعنترة بن شداد العبسي وغيرها الكثير.

عن هذا الموضوع تحدث شادي الحلاق الابن في تصريح لمراسلة سانا قائلاً: إن الوفود السياحية كانت لها وقفة دائمة بالمقهى لحضور الحكواتي والتقاط الصور التذكارية معه، مشيراً إلى أعمال والده رشيد التي تجاوزت الحدود السورية حيث شارك بمهرجان جرش بالأردن عام 1992 وحتى عام 1995 على مسرح الصوت والضوء وله مشاركات عديدة  بالبحرين وأبو ظبي ولبنان ومهرجان دمشق عاصمة الثقافة العربية عام 2009 ومهرجانات المحافظة للثقافة والفنون بساروجة جوزة الحدبة، وشارك مع لجنة اليونسكو لمشروع ميدليهيرت لحماية التراث لبلدان البحر الأبيض المتوسط عام 2010.

وتعمق شادي الحلاق بمهنة والده فبدأ البحث عن القصص الأسطورية والتاريخية المحبوبة لدى جمهور الحكواتي من المقاهي السورية وجمع كتباً مكتوبة بخط اليد وقام بإعادة ترميمها كقصة ألف ليلة وليلة وسيف بن ذي يزن، وقد قام المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأوسط بطباعة قصة الملك الظاهر بيبرس مع مساعدة والده بشرح بعض الكلمات ومعانيها.

ولفت الحلاق الابن إلى الكنز التراثي الذي وجده خلال عمليات البحث وهي كتب بلغة مشفرة والتي اكتشف أنها خيمة كركوز وعواظ السورية المندثرة حيث شرح له والده كيفية تقديمها وصنعها من الجلود والألوان وطرق التحريك وأسماء القطع وصفاتها ليقدم أول عرض لخيال الظل بحضور مجموعة ممن عاصروا خيال الظل، وكتب الكاتب نصر الدين البحرة عندها مقالة بعنوان: كركوز يبعث من جديد.

وامتهن شادي الحلاق هذه المهنة مع  فن الحكواتي حتى صنفت لدى اليونسكو على قائمة الصون العاجل بالتعاون مع الأمانة السورية للتنمية وقدم ورشة عمل لتعليم 22 طالباً وطالبة لصناعة خيال الظل والتحريك وتعليمهم أصول المهنة وبحرفية تقليدية وتم منحهم وثيقة من قبل الأمانة أنهم أصبحوا مخايلين سوريين ضمن حفل بدار الأسد.

مهنة متوارثة:

وانطلق شادي لتحويل مهنة الحكواتي إلى مشروع عمل مستمر له ولأبنائه، مشيراً إلى أنها مهنته التي يحبها وقد استمر فيها بعد وفاة والده عام 2014 واستمرت مسيرة حكواتي الشام مع خيال الظل وحالياً أولاده يتعلمون منه هذا الفن.

جواد بن رشيد الحلاق البكر قدم عرضا لخيال الظل مذ كان في التاسعة من عمره وذلك على مسرح قصر العظم ضمن مهرجان من (الأجداد الى الأحفاد) والآن هو في العاشرة أصبح لديه أكثر من 40 عرضاً لخيال الظل، وهو أصغر مخايل ويساعد والده بتصنيع القطع وتقديم العروض.

وكذلك رشيد ذو الثامنة من عمره يتعلم مهنة الحكواتي وخيال الظل، وجاد الصغير في الخامسة من عمره دفعه شغفه بخيال الظل الذي تشربه من عائلته إلى تقديم حوارات في المنزل وللعائلة.

(الحكواتي) فنان شامل:

يقول الحكواتي عمار جراح في تصريح لمراسلة سانا: إن شخصية الحكواتي هي شخصية تاريخية معروفة من التراث اللامادي المتوارث من جيل إلى جيل، وهو يعمل بهذا المجال منذ عام 2000 وفي كل عام من شهر رمضان يظهر بهذه الشخصية لحمايتها من الاندثار، مثلها مثل خيال الظل (كركوز وعيواظ)، وصندوق الدنيا لتبقى في الذاكرة.

وأشار الجراح الى انه يعمل على تطويرها لتناسب رغبة الناس من خلال تواجده مع جمهوره في المطاعم والمقاهي التراثية ،فيختار القصص المحلية التي تحمل الفكاهة والفائدة للجمهور بالإضافة إلى وجود تخت شرقي لعزف الموسيقى، وتقديم فقرة المسحراتي.

وذكر طارق علي أحد المستمعين للحكواتي أن اختيار وجود الحكواتي لقصص التراث الشعبي وحكايات أبطاله يعيد إحياء الزمن الجميل حيث يلفت أنظارهم بنبرة صوته التي تتعالى وتنخفض بالتناغم مع سير الأحداث والحماس الذي تحويه قصته وهو يجلس على كرسيه ويحمل في يده كتاب القصص وفي الأخرى يحمل عكازه ويلوح بها في كل الجهات.

والمحامية رنا بكباشي وجدت في شخصية الحكواتي عودة إلى إحياء التراث اللامادي، وإضفاء أجواء من المحبة والتآلف، والابتعاد قليلاً عن ضغوطات الحياة بالإضافة إلى جذب جيل الشباب ليستمعوا إلى بطولات عنترة وأبي زيد الهلالي وتعلم قيم الشهامة والأخلاق العربية.

مشروع اقتصادي وتراثي

الحكواتي ليست مهنة فقط بل تفاصيل صاحب المهنة تحمل في طياتها أهمية اقتصادية متنامية في المجتمع السوري بدءا من لباس الحكواتي الذي يتضمن الطربوش الأحمر الغامق على الرأس وصدرية مصنوعة من نول يدوي وسروال شامي طويل، أما الزنار فهو لفة من قماش الدامسكو، البروكار الدمشقي، إضافة إلى شال على الأكتاف من الحرير وجاكيت عربي يسمى الدامر، مطرز يدوياً وليس له أزرار يتبع تطريزة السروال ومبطن من الحرير لونه أسود كما السروال يكون أسود ويجلس الحكواتي بالمقاهي العامة على كرسي يمثل ما انتجته سواعد الحرفيين الدمشقيين من خشب محفور وموزاييك مطعم بالصدف.

 تلك التفاصيل تمثل حرفاً تراثية تقليدية تحمل الطابع السوري المميز من البروكار الدمشقي والأغباني والموزاييك والحفر والنقش على الخشب والصدف، هذا ما أوضحته رئيس مجلس إدارة جمعية الوفاء التنموية السورية رمال صالح، مبينة أن هذا التراث أضحى مشروعاً تنموياً لعائلات سورية كثيرة من خلال مشروع (بيت الشرق للتراث) الذي أطلقته الجمعية بدعم من الأمانة السورية للتنمية والذي يضم 13 حرفياً من الحرفيين المتميزين ممن دمرت ورشاتهم بالحرب الإرهابية على سورية وتم جمعهم ببيت عربي قديم بمساحة نحو 750 متراً، وقدمت لهم أدوات الإنتاج ومستلزماته للحفاظ على الموروث الثقافي والحضاري وإنتاجهم موجود بمعارض خارجية ومحلية.

وبينت صالح أن صناعة الأغباني أيضاً من أهم مشاريع الجمعية التي تأسست بنهاية عام 2017 والذي يجمع السيدات المتضررات من الحرب بمدينة دوما بريف دمشق، حيث بدأ بأربع سيدات ليضم في غضون أربع سنوات 450 سيدة.

أما البروكار الدمشقي فلفتت صالح إلى أنه من أدق وأفخم الأقمشة على مستوى العالم، إذ ينسج من خيوط الحرير الطبيعي المستخلصة من شرانق دودة القز وهو قماش فاخر ينسج على النول اليدوي وتضاف إليه الخيوط الذهبية والفضية وتعرف دمشق بأنها حاضنة هذه الصناعة التي تعتبر من أقدم الصناعات السورية، ويحتاج انتاج متر واحد من البروكار الدمشقي من 8 إلى 10 ساعات من العمل المتواصل.

 وأضافت صالح: إن البروكار الدمشقي يعكس من خلال الرسومات ثقافة المنطقة وطبيعتها وتاريخها فسمي بقماش الأميرات أو الدمشقيات ومن خيوطه نسجت أجمل اللوحات والنقشات مثل العاشق والمعشوق وصلاح الدين وروميو وجولييت والوردة الشامية والياسمين الدمشقي، ويتميز البروكار الدمشقي بأنه باهظ الثمن لصعوبة استخلاص الحرير الطبيعي ووجود خيوط الفضة والذهب بداخله.

وذكرت صالح أن دمشق ضمت عدة معامل لإنتاج البروكار الدمشقي وكان أشهرها معمل النعسان للصناعات اليدوية بجوار باب شرقي، وأهمية قصر النعسان مع المعمل تكمن في أن مؤسسهما أحد فناني الموزاييك والبروكار وهو الشاب جرجس نعسان الذي بنى المعمل سنة 1720 في منطقة باب شرقي لتصب ريادته في الموزاييك مدرسة بحد ذاتها، وبقيت عائلته تتوارث المهنة مئات السنين حتى عصرنا الحالي.

 محاسن عوض ــ رشام محرز ــ تمام الحسن ــ آلاء الشهابي

متابعة أخبار سانا على تلغرام https://t.me/SyrianArabNewsAgency

انظر ايضاً

الحكواتي… تراث رمضاني أصيل