دمشق-سانا
تمتزج في أعمال التشكيلي جورج بيلوني ابن مدينة حلب ذاكرة الإنسان السوري وتحمل لوحاته عبق الثقافة السورية وروحها المجبولة من آلاف السنين لتختزل أعماله حياة الأرض والإنسان.
ومنذ وصوله إلى فرنسا باشر عمله الفني في مرسمه الخاص فأقام حتى الآن معرضين فرديين كان الأول بعنوان ذاكرة الارض عام 2016 والثاني مؤءخرا بعنوان “من حلب إلى تورين .. تواصل” إلى جانب عدة معارض جماعية بمشاركة فنانين فرنسيين كانت سورية هي العنوان الأبرز فيها.
وللوقوف على تجربة الفنان التشكيلي المغترب بيلوني كان لـ سانا الحوار التالي معه.
ما هي علاقتك باللوحة ؟ ولماذا اخترت الأيقونة كقيمة فنية؟.
علاقتي باللوحة كما علاقة الجسد بالروح وعلى مدى تجربتي تعلمت من لوحتي معنى الصدق وضرورة التجريب والإلغاء والحذف والإضافة وبرأيي بدون اكتشاف كل هذه المعاني لا يوجد تجديد أو استمرار في الفن.
ولوحتي هي دائما معلمي وعندما أشرع برسمها أشعر في اللحظة الأولى كأن الروح دخلت إلى المادة ليتحدا وهذا الاتحاد يدفعني كي أخدش الصمت والفراغ بمساحة بيضاء توحي بالموت ولدى أول لمسة قلم أو لون تولد حالة المخاض وتتبادر إلى الذهن أسئلة لا نهاية لها وتبدأ معركة السؤال والجواب.
أما فيما يخص الأيقونة فأنا لا أعمل عليها كمفهوم ديني ولكن تجربتي حول شخصية (المسيح.. الإنسان) أتاحت لي دراسة هذه الشخصية من الناحية الإنسانية بعيدا عن المفهوم الكنسي لأني وجدت أن هذا الإنسان المشرقي هو الصوفي الأول الذي سبق وجود الصوفية بمئات السنين.
ما هو مشروعك الفني الذي تعمل عليه؟ وفي أي مرحلة تجد نفسك اليوم؟
كنت أعمل دائماً على فكرة الرموز السورية القديمة من أساطير وميثولوجيا وفلسفات ومعتقدات تمتد منذ فجر تاريخ مشرقنا وتتوجت تجربتي بمعرض في بيروت عام 2013عندما دمجت الرموز الحضارية المشرقية متداخلة ما بين الأيقونة وآيات من القرآن الكريم كتجسيد للنسيج والخليط السوري المتداخل والمتأصل في وقت كنا فيه نتعرض لأشرس عملية تشويه لمفاهيم مجتمعنا السوري وثقافته وعاداته فكان ضروريا أن نعبر بصدق عن حقيقة واقعنا وأن نقدمه بهذه الفسيفساء المتداخلة بجمال وأصالة.
أما عن نشاطي الحالي في فرنسا منذ ما يقارب ثلاث سنوات فأنا أعمل عبر لوحتي على دمج كل هذا المخزون المعرفي والثقافي الأصيل من رموز وحضارات مختلفة من العالم بأكمله لأحمل رسالتي بأن الإنسان هو الكينونة الأرقى في الكون وأن السوري عبر التاريخ كانت له مساهمة كبرى في نشر رسالة السلام والعلم والمعرفة والمحبة والفن.
لوحتك فيها الكثير من الحوار الفكري والروحي وهي مشبعة بروح المكان لمن توجهها للإنسان السوري أم للخارج؟
انا ابن مدينة حلب المدينة المشبعة بالتراث وبالإرث الحضاري والثقافي والديني والفني والصوفي فمن البديهي لأي فنان يحيا فيها أن يعشقها وأن يكون مشبعاً بحسّ المكان والزمان وتداخل أصوات المآذن وأجراس الكنائس وبفن العمارة لذلك لوحتي موجهة في البداية لإنسان هذه المنطقة وبقدر ما يكون إحساس الفنان بعمله صادقاً بقدر ما ينتشر إلى العالمية.
كيف أثرت الأزمة عليك وعلى لوحتك؟
ما حدث في وطننا يجعل أي إنسان يندهش ويستغرب من هذا الكم الهائل من الحقد والشر الذي تعرضنا له وأنا كأي إنسان عانى ما عانته سورية عموماً وحلب خصوصاً ظهر ذلك فيما أقدمه لكن لا بد في النهاية للجمال أن يطغى على القبح وللخير أن يغلب الشر.
والفنان ليس لديه سلاح سوى فنه لذلك كان قراري ألا أتوقف عن ممارسة فني الذي أحيا به وهو ما جعلني أصمد طيلة ثلاث سنوات قضيتها أثناء الحرب في حلب رغم الصعوبات الكبيرة وعندما اتخذت قرار المغادرة كان بهدف البحث عن ظروف أفضل تتيح لي الاستمرار في عملي الفني فغيابي كان جسديا أو فيزيولوجياً عن سورية الأم ومدينتي(حلب) ولكن الروح تبقى دائما هناك.
حين وصلت إلى فرنسا تبين لي أهمية وجودي كفنان سوري في هذه الأزمة خارج بلادي لأحاول تصويب الكثير من المفاهيم الخاطئة عند المجتمع الغربي عما يجري في بلدي من خلال نقاشات وحوارات وعبر لوحتي وهنا تكمن أهمية دور الفن وهو ما أحاول فعله.
كيف تجد حالة التشكيل السوري اليوم ؟ وكيف أثرت الأزمة فيه؟
بالرغم من وجودي في فرنسا أحاول أن أتابع وأبقى على اتصال بالحركة التشكيلية في سورية وما لمسته خلال الأزمة هو الإصرار على الاستمرار في ورشات وتجارب لم تتوقف أبداً وخاصة في دمشق ولا سيما فيما يقدمه المركز الوطني للفنون البصرية كصرح حضاري مهم محليا وعالميا.
هل ترى أن وجود عدد من التشكيليين السوريين بالخارج ساعد على التعريف بالتشكيل السوري وفتح مجالات تسويق جديدة له؟
أرى ضرورة قصوى للوجود الفني السوري خارج سورية ومن واجب الفنان أن يحمل معه جذوره وصدق مشاعره أينما حلّ حتى توجد اللوحة في الخارج ويتعرف عليها المتلقي الغربي وخاصة بما تحمله بعض التجارب الجدية من روحية وثقافة المشرق الغنية بالروحانيات والتي لا تقل أهمية بل تتفوق أحياناً على الكثير من التجارب الغربية المهمة.
أما التسويق فيعتمد على عوامل متعددة متعلقة بالتواصل والعلاقات مع المؤسسات الفنية والصالات الخاصة وعلى تجربة كل فنان بحدّ ذاتها.
هل يمتلك التشكيل السوري برأيك هوية خاصة به وهل توجه تشكيليين شباب للحداثة وما بعدها يؤثر على هذه الهوية؟.
توجد تيارات لها خصوصية في سورية من المفترض أن تمنح الفن السوري هوية وهي لا تزال تبحث وتجرب بجدية من خلال خصوصيتنا كونها نتيجة لإرث حضاري وفنيّ ولكن الفن عموماً لا يمكن أن يحدّ بهوية أو أن يتحدد بجغرافيا أو حضارة وخاصّة في عصرنا الحالي وما فيه من انفتاح وعولمة ووسائل تواصل.
وبخصوص التوجه نحو الحداثة و ما بعدها فإن تعدد اتجاهاتها الفنية لا يلغي الخصوصية وقد لا يكون هذا بهدف التسويق فقط بل حالة فنية خاصّة مع وجود التجارب الحديثة الضرورية والمهمة للحركة الفنية والتي بدونها لا يمكن التطور ولا سيما إن كانت مستوحاة من روحية وثقافة أصيلة.
كيف ترى الجيل الجديد من التشكيليين ؟ وبماذا تنصحه؟.
أشعر بالتفاؤل تجاه جيل الشباب لأني أرى في تجاربهم أهمية لا تقلّ عن أهمية التجارب الغربية وهذا يأتي بالبحث والتجربة والاجتهاد والمتابعة للحركة الفنية العالمية الذي بات متاحا بما تحقق من وسائل اتصال حديثة واتمنى أن تُبنى تجاربهم على مفهوم معرفي وثقافي وفهم لتاريخ وأصالة المنطقة المليئة بالمحرضات الفنية.
هل أنت متفائل بمستقبل التشكيل السوري؟
متفائل جداً وعندما نمتلك الطموح المبني على إرادة وأصالة والمقدرة على توظيف كل الموروث الشعبي والمخزون الروحي في عملٍ فني سيحقق خصوصية فنية سورية ويحمل فكراً ورسالة.
يذكر أن التشكيلي جورج بيلوني من مواليد حلب عام 1966 عضو اتحاد التشكيليين السوريين ومقيم في مدينة تورز بفرنسا منذ ثلاث سنوات و له العديد من المعارض الفردية و الجماعية داخل سورية وخارجها وحاز المرتبة الأولى بين الفنانين والمرتبة الثانية بين المبدعين في قائمة أهم 100 شخصية عربية لعام 2014 حسب تصنيف أرابيان بيزنس ونال الجائزة التقديرية الأولى التي أقامها المركز الياباني في سورية عن هيروشيما عام 1996 وأعماله مقتناة من قبل وزارة الثقافة وضمن مجموعات خاصة في عدة بلدان عربية وأجنبية.
محمد سمير طحان