لم يسبق للإسرائيليين يوماً أن طرحوا تساؤلاً عن هوية الحرب العبثية التي يخوضونها كما هو الحال اليوم في العدوان على غزة، وهم الذين خاضوا قبلها حروباً بالجملة على النسق ذاته، ولم يسبق لهم يوماً أن لاحظوا فارقاً بينهم وبين الأميركي، وأغلبهم كان يخلط بين حروبهم الخاصة ببنك أهدافهم المعلن أو المستتر، والحروب التي خاضوها أو يخوضونها من أو على رصيد الحساب الأميركي.
الفارق أن الإسرائيليين بدؤوا يتلمسون النتائج الكارثية لكثير من حروب قادتهم العبثية، ولاسيما تلك التي تأتي بناء على الطلب الأميركي، أو لخدمة بنك أهداف أميركا الإقليمي أو العالمي، ابتداء من عدوان تموز على لبنان قبل ثمانية أعوام وليس انتهاء بجملة من محاور الجبهات المقترحة على اللائحة الأميركية، حيث لم يعتد الإسرائيليون طوال وجود كيانهم على تسديد فاتورة ليست لهم، بل اعتاشوا على الفواتير المدفوعة مسبقاً.. سياسياً من أميركا، ومالياً من أدواتها الإقليمية، ودبلوماسياً من الحلفاء المنتشرين في جهات الأرض الأربع.
الأخطر في سياق الفارق ذاته أن الإسرائيليين يجدون أن الفاتورة لا تتجاوز طاقتهم فحسب، بل أغلى بكثير من الثمن الذي تتطلبه حرب محدودة على غزة اعتادوا في السابق أن تكون مشروعاً تكتيكياً أو مناورة بالذخيرة الحية، وتنتهي بعد عدة أيام بموسم من تقديم ولاء الطاعة الإقليمية والامتنان الدولي.
على هذه القاعدة فإن ما يغيظ الإسرائيليين لم يعد فشل قادتهم وعجزهم والمأزق الذي تورطوا فيه ولا مخرج لهم منه فحسب، بل من الانقلاب في المعادلة، حيث يجدون أنفسهم مطالبين بشد الأحزمة لتسديد جملة فواتير مستحقة سابقاً ولاحقاً، ولم يمنعهم التواصل مع حلفائهم الإقليميين من أعراب وسلاجقة، وعلى الملأ.
في الواقع العملي إن أميركا لم تعتد أن تفرج عن أفكارها في الحروب العبثية التي تخوضها، ولم تكن يوماً مستعدة للدخول مناصفة أو مرابعة مع أحد في الإعداد المسبق لأجندات حروبها تلك، وظلت أغلب الإجابات المنتظرة غير متاحة للأغلبية الساحقة من دول العالم، بما فيها الحليفة للولايات المتحدة الأميركية.
ورغم أنها لم تفرق ظاهرياً بين حروبها التي كانت تخوضها مباشرة أم تلك التي توكل مهمة التورط فيها لوكلائها أو حلفائها أو أدواتها، وخصوصاً تلك التي تتصف أهدافها بالدونية في المنطق الأميركي، أو عندما كانت تجمعهم على جبهة واحدة ولهدف واحد، إلا أنها في أغلب الأوقات كانت تلجأ إلى تقديم لائحة مسبقة بتلك الأهداف حتى لو وضعت شعارات افتراضية مغايرة للاستهلاك الإعلامي.
اليوم، اللعبة الأميركية تعدل من قواعد استخدامها تحت وابل الفشل الذي يلاحق حروبها العبثية الماضية والحالية، ولا تتردد في تحميل حلفائها وأدواتها بما فيها إسرائيل فاتورة الحرب وفاتورة النتائج في الآن ذاته، وعلى خطاها يسير البقية بمن فيهم المشاركون المباشرون أو غير المباشرين، لتجد إسرائيل ذاتها في ورطة متعددة الأبعاد تعبر عنها حالة الهذيان السياسي المستشرية في مفاصل القرار الإسرائيلي، وهي تجد أن الأبواب الموصدة ليست في الميدان وحده بل في السياسة أيضاً، خصوصاً أن متسابقي تقديم الخدمة المجانية لإسرائيل عاجزون عن التقدم أبعد من السياق الذي أفصحت عنه إغراءات نتنياهو العلنية.
القطبة المخفية في الحروب العبثية ونتائجها تبدو متحركة في اتجاهات متعددة، ليس أقلها وعود الأدوات الإقليمية الافتراضية وتحليلاتهم الخاطئة والتزاماتهم التي تفوق طاقتهم وطاقة أدوارهم الوظيفية، والتي تحول حتى الآن دون أن يبادر الأميركي إلى استدراك كامل لحوامل الجبهات المفتوحة، وتغيير أنماط السلوك القائم على تبعية منهجية متخمة بأخطاء الماضي والحاضر، والتي تختصرها الملاسنة الجدلية بين أوباما ووزيرة خارجيته السابقة، وإن لم تقدّم كل التفاصيل الإضافية القائمة.
والشواهد غير المرئية أن أميركا في حروبها العبثية اليوم هي غيرها حين كانت متسيدة للمشهد العالمي، وأن إدارة الفوضى لا تقتصر على توكيلات بحروب عبثية وتحميل ما ينتج عنها للوكلاء الحصريين والإضافيين، بل تشمل أيضاً التفرد برفع الغطاء الذي أفضى إلى تحرك بريطانيا واستراليا نحو مجلس الأمن لملاحقة الجهاديين الأجانب، وما يقتضيه من انكشاف عورات المشيخات والسلاجقة على المنصة الدولية، لتكون فاتورة دعمهم العبثي للإرهاب على مقاس وظائفهم التاريخية، ولو اقتضت تعديلات في الجغرافية والعلوم وربما في التركيب الكيميائي للخلطة الأميركية لإدارة فوضى العالم على خشبة من ركام وبقايا ونتف الدول والشعوب والأمم.
بقلم: علي قاسم