من لوزان في سويسرا، جاء الإعلان عن وضع الخطوط العريضة والرئيسة للتفاهم على برنامج إيران النووي، ومما لا شك فيه وباعتراف جميع القادة المفاوضين، إيرانيين وأمريكان وأوروبيين غربيين، فإن هذا الاتفاق حدث تاريخي بكل المعايير والمقاييس، وهذا الاتفاق بعد التصديق عليه بشكل نهائي في حزيران المقبل إذا لم تظهر أي عقبات أو تطورات أو مفاجآت، سيشكل نقطة تحول في المنطقة، ليس لجهة الاعتراف بإيران قوة إقليمية لها مصالح ونفوذ في المنطقة، بل هو اعتراف صريح وواضح بأن إيران بصمودها وثباتها على مواقفها من القضايا الإقليمية والدولية وخيارها، نجحت في الدخول إلى نادي الكبار في العالم، وهي تتصدر حلفاً يمتد من طهران حتى عدن الآن، هذا الحلف سيفرض شروطه ومعادلاته في المنطقة، والفرحة العارمة التي سادت الكثير من دول العالم، بتوقيع هذا الاتفاق الذي وصفه الرئيس الأمريكي بالتاريخي ووزير خارجيته كيري بالعظيم -وحقاً إنه تاريخي وعظيم- لأنه يؤكد حق إيران في امتلاك التكنولوجيا النووية، ويبقي على قدراتهـــــا النـــووية، في حــــدود الاستخدام للأنشطـــة السلمية النووية، وكذلك فهو يرفع العقوبات الاقتصادية والمالية بحق إيران والمرتبطة ببرنامجها النووي، وهذا يعني تحريراً للاقتصاد الإيراني من القيود الكبيرة التي أثقلت كاهله، وكذلك يعني أن الإنتاج النفطي سيتضاعف إلى أكثر من ثلاثة أضعاف، ما يؤدي إلى تنشيط وتفعيل وترميم الكثير من المؤسسات الاقتصادية والمالية الإيرانية التي تضررت نتيجة هذا الحظر والعقوبات الأمريكية والغربية عليها. إيران بتوقيعها على الاتفاق التاريخي أثبتت للعرب العاربة والمستعربة، وكل المنهارين منهم، أن سياسة الاستجداء والاستعطاف والتعامل الدوني مع الغرب والأمريكان لن تقود إلا إلى المزيد من الذل والمهانة وعدم الاحترام، فأمريكا ومؤسساتها تتعامل مع العرب بدونية، رغم أن الاقتصاد الأمريكي ينتعش بمليارات العرب المضخوخة إلى مصارفهم ومؤسساتهم المالية، والمستثمرة في بلادهم، و«إسرائيل» المنتعش اقتصادها بالأموال الأمريكية، تعربد وتمارس البلطجة، ورئيس وزرائها نتنياهو يذل الرئيس الأمريكي في عقر داره. نعم طهران أثبتت لمشيخات النفط والكاز العربية وغيرهم من العربان، أن الطريق إلى واشنطن لن تمر عبر تل أبيب، وكذلك أثبتت دول صغيرة بحجم كوبا وفنزويلا صحة هذه المقولة، فهي رغم حصارها والتآمر الأمريكي عليها، لم تركع ولم تتخل عن مبادئها ومواقفها وثوابتها، ولم ترتعد قياداتها أو تجبن، بل في وقت كانت فيه العربان ترتعد كان الرئيس الفنزويلي الراحل الكبير “تشافيز” يقوم بطرد سفير «إسرائيل»، وقال: إنها دولة إرهابية على خلفية حروبها العدوانية على شعبنا الفلسطيني وقطاع غزة.
الفرحة العارمة تعم دول العالم بهذا الاتفاق الذي لا يلقى الترحاب والقبول في«إسرائيل» ومشيخات النفط العربية وبالذات السعودية، فـ«إسرائيل» حاولت بشتى الطرق منع توقيع هذا الاتفاق، الذي وصفه رئيس وزرائها نتنياهو بتغريدة له على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» بأنه «أسوأ مما توقعنا»، ونتنياهو لم يترك مناسبة أو محفلاً، إلا وحرض فيه على إيران، بأنها دولة تريد تدمير «إسرائيل» وهي تصدّر الإرهاب إلى سورية والعراق ولبنان ومصر واليمن وفلسطين..الخ، وفي سبيل ذلك مارست التخريب في المنشآت النووية الإيرانية، واغتالت علماء نوويين إيرانيين، وهددت أكثر من مرة بأنها ستذهب منفردة لتدمير المنشآت النووية الإيرانية، ورئيس جهاز موسادها وأجهزة مخابراتها نسقت ورتبت واجتمعت مع نظيرتها السعودية لهذا الغرض. أما السعودية فهي الأخرى سلكت كل الطرق ومارست شتى الضغوط والابتزاز وقدمت الرشى ووعدت بالمليارات، مقابل منع توقيع الاتفاق الإيراني- الأمريكي الخاص بالبرنامج النووي الإيراني، فقد حاولت رشوة الروس بمليارات الدولارات وبمشاريع اقتصادية ضخمة، كما كانت تحرّض فرنسا وتدفع لها الملايين من أجل أن تتصلب في المحادثات الدولية (5+1) ولجأت المملكة إلى الحرد في المؤسسات الدولية، حين تخلت عن مقعدها غير الدائم في مجلس الأمن العام الماضي، كما اعتذرت عن إلقاء كلمتها في الجمعية العامة للأمم المتحدة، عندما اكتشفت أنّ أميركا بدأت محادثاتها مع إيران بشأن برنامجها النووي من دون علمها بوساطة عمانية.
الموقف «الإسرائيلي» وحده يرسم بوصلة ووجهة الموقف من الاتفاق، يوم حداد في «إسرائيل» تقول المواقع «الإسرائيلية»، وتضيف إنه علامة فشل تاريخي لكلّ من «إسرائيل» والسعودية ستكون أثمانه باهظة عليهما. وتدرك أميركا جيداً أنّ السعودية و«إسرائيل» هما من تشوشان وتحرضان بشكل أساس على الاتفاق الأمريكي- الإيراني بشأن برنامج إيران النووي. وقد جاءت الأحداث الأخيرة في اليمن لتمنح الأميركيين فرصة لتسويق هذا الاتفاق وتجاوز الاعتراضات السعودية «الإسرائيلية» عليه، حيث إنّ ضجيج وصخب التدخل السعودي في اليمن، سيطغى على توقيع الاتفاق مع إيران، لذلك أعطت واشنطن الضوء الأخضر للسعودية لشنّ عملية عسكرية ضدّ الحوثيين، فالمعلومات المتوافرة تشير إلى أنّ قرار شنّ «عاصفة الحزم» السعودية على اليمن، كان سابقاً لزحف الحوثيين على عدن، وفي هذا السياق، قال السفير السعودي في واشنطن عادل الجبير: إنّ هذه العملية نتاج محادثات سعودية أميركية ممتدة لشهور سابقة، وهذا ما اتضح من خلال الإعلان عن « عاصفة الحزم» السعودية من واشنطن.
شنت السعودية هذه الحرب العدوانية لخشيتها من خسارة دورها الإقليمي أكثر من خشيتها امتلاك إيران القنبلة النووية، فهي تعرف جيداً أنّ هذه القنبلة هي فقط من أجل خلق توازن رعب وحماية مصالح إيران ودورها ونفوذها في المنطقة، وليس من أجل استخدامها، وهي بفعل البترودولار قادرة، وبموافقة أميركية على شراء قنبلة نووية جاهزة من حليفتها باكستان. أما بالنسبة إلى «إسرائيل»، فهي تخشى، إلى حدّ الهوس، امتلاك أي دولة في المنطقة سلاحاً نووياً، يهدّد دورها ونفوذها، أو يشكل خطراً وجودياً عليها. لذلك فهي تعد أنّ منع امتلاك إيران هذا السلاح ضمانة لاستمرار تفردها وهيمنتها وسيطرتها على المنطقة، ولكي تهضم الاتفاق الإيراني مع أميركا والغرب فهي في حاجة إلى جائزة ترضية أميركية، جائزة ستدفع من الحقوق الوطنية الفلسطينية، حيث ستغضّ واشنطن الطرف عن مواصلة «إسرائيل» توسعها الاستيطاني في الضفة الغربية وتهويدها للقدس، مع بقاء المفاوضات دائرة لعشر سنوات مقبلة أخرى، وما بين تقديم مبادرة أميركية وأخرى أوروبية، تكون «إسرائيل» قد أجهزت ليس على القدس وحسب، بل على الضفة الغربية أيضاً، وقضت على آمال الفلسطينيين بإقامة دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة، عاصمتها القدس.
حدث تاريخي سيلقي بظلاله على كامل المنطقة، بعد التوقيع بشكل نهائي في حزيران المقبل، تدخل بموجبه إيران نادي الكبار، وتتشكل تحالفات ومعادلات جديدة في المنطقة.
بقلم: راسم عبيدات
كاتب من القدس المحتلة