إذا كان مفهوم الأمن القومي واضح المعالم، ولا يثير أية إشكاليات خلافية في دول العالم، فإنه، في الدول العربية، التي لم تحقق وحدتها القومية، ليس كذلك. هنا يبدو الأمن القومي العربي، بالرغم من استخدامه الشائع في الأدبيات السياسية، ولاسيما في الخطاب السياسي الرسمي، إسماً بلا مسمّى. وغالباً مايُستخدم للتغطية على الهدف الحقيقي الذي يسعى إليه النظام الرسمي العربي، وهو أمن الدول القطرية الذي يساوي أمن الأنظمة التابعة التي تحكم معظمها. فالهاجس الأمني الحقيقي الذي يظهر في الدولة القطرية التابعة، ومعظم الدول العربية هي للأسف من هذا النوع، ليس قومياً ولا وطنياً، لأن هذه الدول منخرطة أساساً، بهذا القدر أو ذاك، في المشروع الأمريكي الصهيوني المعادي للمشروع القومي العربي، والهاجس الأمني الوحيد فيها هو هاجس حماية السلطة الحاكمة من ثورة الداخل، ومن التهديد الخارجي المتمثل في المقاومة العربية التي تفضح عمالة تلك السلطة، وتهافت شرعيتها الوطنية المزعومة.
لا وجود اليوم لأمن قومي عربي شامل، ولا لأمن وطني حتى، فالأمن الوطني يقوم أساساً على سيادة الدولة، واستقلال قرارها. وهو يرتبط بالضرورة بالأمن القومي، ويصبّ فيه. وليس غياب الأمن القومي العربي إلاّ تعبيراً دراماتيكياً عن غياب الدولة الوطنية الديمقراطية العربية، وتغوّل الدولة القطرية الاستبدادية التابعة، والمعادية للمشروع القومي العربي، ولاسيما الدولة النفطية ذات الإمكانيات المالية الجبارة. وأخطر ما في القمة العربية الأخيرة أنها كرّست سيطرة تلك الدولة، في نموذجها السعودي الأكثر رجعية، على القرار العربي، فدعمت عدوان المملكة الوهابية الوحشي على اليمن، وقررت إنشاء قوة مشتركة لتأديب الخارجين من بيت الطاعة السعودي كاليمنيين، ولم تتورع عن تبرير ذلك، زوراً وبهتاناً، بحماية الأمن القومي العربي الذي تولت السعودية حصر الأخطار التي تهدده في إيران وحلفائها من الدول والقوى العربية التي تقاوم الاحتلال الصهيوني، والهيمنة الأمريكية، والإرهاب التكفيري، وتتمسك بمبادئ السيادة والاستقلال الوطني، وتطمح إلى النهوض والتقدم. أي إن هذه القمة، على عكس ادعاءاتها القومية، قد نسفت الأمن القومي العربي من أساسه، ونقلت الحال العربي إلى مرحلة أكثر سوءاً من التفكك والانهيار الذي يستفيد منه المشروع الأمريكي الصهيوني، وأدواته الإرهابية في المنطقة، ووضعت العرب مجدداً أمام حقيقة مأساوية، لم يسبق لها أن ظهرت على هذا النحو الفاقع، وهي أن الخطر على أمنهم لا يأتي من العدو الخارجي فقط، بل من العدو الداخلي أيضاً، وتحديداً الرجعية المتصهينة، مما يستوجب إعادة تعريف الأمن القومي العربي، وتحديد وسائل تحقيقه في ضوء هذه الحقيقة التي تؤكد أن الطريق إلى هذا الأمن هو طريق النضال ضد الصهيونية، والإرهاب، والرجعية، ومن أجل تحويل الدولة القطرية الاستبدادية التابعة إلى دولة وطنية ديمقراطية، تملك حرية قرارها السياسي، وتنفّذ إرادة شعبها، وتعبّد بذلك الطريق لقيام دولة الوحدة القومية.
بقلم: محمد كنايسي