فانتازيا الدمار والإعمار!!-صحيفة البعث

لم تشفع الأخبار المتواترة عن مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي، والدلالات العميقة لسلسلة العقود والمنح الاقتصادية الخليجيّة لمصر، والتي تفوح منها رائحة السياسة،  لم تشفع لنا في كبح جماح شهوة جلد الذات، التي تستحكم  ببعضنا نحن السوريين أحياناً، وغررت بنا لنفصّل، عفواً أو قصداً، فصلاً حدّياً بين البعدين السياسي والاقتصادي في الحديث عن تفاصيل أزمتنا!!.

الواقع أن ثمة مقاربة، لا بد أن نفصح عنها هنا، ألحت علينا، وربما على ذهن كل متابع، ومصدرها ما أفضى إليه المؤتمر من نتائج أشبه بالفانتازيا قوامها “أطنان” من مليارات الدولارات، وحشد مالي ومعنوي، بدا مريباً في أبعاده تحت عنوان “مصر المستقبل”، التي ننشد نحن لها مستقبلاً واعداً بحق، وسخاء استعراضياً يجري على إيقاعات الحشد الإرهابي والضخ المالي لإذكاء نار التخريب في المضمار السوري بعنوان مفترض استنتاجاً -ولدينا متوالية قرائن بشأنه- وهو “تدمير سورية المستقبل” على أيدي زاعمي تمويل “مصر المستقبل”، وفي كلتا الحالتين نحن أمام فعل اقتصادي بأبعاد سياسية، لن يكون لكل من يسهو عنه نصيب من الحكمة في الطرح والتحليل، مهما سرد من تفاصيل محلية تختصر المسافات الفاصلة بيننا في سورية وبين واشنطن والعواصم الأوروبية وبعض الأخرى العربية، وتحصر العلل والخلل في حنايا أروقة الإدارة الحكومية، رغم كل ما يعتري هذه الأخيرة من ارتباك وتشتت.

فثمة من يتجاهل انعكاس ما هو سياسي المنشأ تمّ توضيبه في غرف “اللعب بمصائر الشعوب” لم يمنع بُعدها عنّا مئات آلاف الأميال، وصول تأثيراتها إلى يومياتنا بأدق تفاصيلها.. من السلعي إلى النقدي إلى باقي جزئيات معادلات السوق وقوانينها وتطبيقاتها، ويختصر كامل “الحكاية” عبر الغرق في دوامة الحديث عن السالب والموجب في سياساتنا الاقتصادية، وبذات النبرة والمفردات التي كنا نطلقها في سنوات الفورات التنموية وزمن البحبوحة؟.

من هناك من بوابة شرم الشيخ اخترنا الدخول إلى أزمة الليرة السورية، الموضوع الذي يختزل مجمل أزمة اقتصادنا، لأن سعر صرف عملة أي بلد هو خلاصة اقتصادية وسياسية، وليس مقدّمة لتفاصيل طويلة، كما يرغب بعضنا أن يقرأه مقلوباً، وسنلتقط مؤشر الليرة هنا لأنه قابل للإسقاط على كل قطاع أو مكوّن اقتصادي، لذا اسمحوا لنا أن نرى في الاستطراد بتقييم السياسات النقدية وإجراءات الإدارة المختصّة خطأ أوقعنا جميعاً في شرك الانشغال بالحديث عن معالجات سطحية لا تخرج عن المسار النقدي- ولا ننفي الأخطاء الواضحة لكنها نذر يسير من المشكلة وليس كلها- رغم أن لوازم الحل الحقيقي تتموضع في خانات غير نقدية داخل الجسم الاقتصادي.

لقد أشبعنا المسألة النقدية تمحيصاً وتقليباً حتى الملل، ليأتي السؤال المحرج ولو افترضنا دقة وصحة كل ما قيل: ماذا بعد وما الحل؟.

لعلّه آن الأوان لنشترك جميعاً في صياغة مفردات حل اقتصادي، وليس مجرد نقدي، لأزمة ليرتنا، وبالتالي أزمة اقتصادنا الكلّي بكل قطاعاته، فهل سألنا عن حجم الإصدار النقدي العام وقارناه بالمعادل الإنتاجي الراهن “والمعادل الإنتاجي يعني صادرات والصادرات تعني معادلاً نقدياً بالعملات الصعبة”، لنتحرّى ونقدّر حجم التضخّم النقدي الناتج عن وجود كتلة نقد كبيرة عائمة بلا روائز سلعية محلية وقيم مضافة حقيقية؟. وهل ستلغي سياسات “النقد المُدار” حقيقة وهننا الاقتصادي الإنتاجي والخدمي، حتى لو نجحت في إعادة سعر صرف الدولار إلى أقل من 50 ليرة سورية؟، وهل سيكون علينا التصفيق حينها لمن يكون موزّع شيكات بلا أرصدة علينا، وإلى متى يمكن الاستمرار بذلك؟.

قد يكون آن الأوان لنقتنع بأن حل مشكلة ليرتنا سياسي أولاً – وهذا ليس إجراء محلّياً- ثم اقتصادي ثانياً، لكنه بكل تأكيد غير نقدي، ولا نعتقد أنه علينا انتظار هبات من طراز “شرم الشيخ ومصر المستقبل”، بل هنا سورية المستقبل التي نصوغها بأيدينا وعقولنا بالبحث عن توافق رؤى وليس تنازع آراء، وحسبنا أن ندرأ عن أنفسنا شرور “مشيخات” شرم الشيخ.

بقلم: ناظم عيد