في آب 2021 اعتمدت العديد من العواصم الأوروبية على جنود أميركا للمساعدة في إخراج مواطنيها من أفغانستان، بعد سيطرة “طالبان” على كابول، وكتب آنذاك “جوزيب بوريل”، ممثل السياسة الخارجية في “الاتحاد الأوروبي” في صحيفة “نيويورك تايمز” يقول: “إن الأوروبيين وجدوا أنفسهم معتمدين على القرارات الأميركية.. يجب أن يكون هذا بمنزلة دعوة للاستيقاظ”.
الآن تبدو دعوة “بوريل” لسان حال الكثير من الأوروبيين، ويبدو أن ما جرى في أوكرانيا هو المحرك والدافع، فما بعد الحرب الأوكرانية ليس كما قبلها، وخصوصاً في شكل العلاقات الدولية، وشكل النظام العالمي المستقبلي، وإعادة توزيع شبكة العلاقات والمصالح الدولية.
وهنا على سبيل المثال، وفي سابقة لم تحسب واشنطن يوماً أي حساب لها، وربما نادرة الحدوث، بدأت ترتفع الأصوات الأوروبية التي تناهض الهيمنة الأميركية على قرار القارة العجوز، وتطالب بالاستقلال عن سياسات الولايات المتحدة، وبقوة.
ومثل هذا الكلام ليس مصدره الرغبة منا في رؤية الصدع الأوروبي الأميركي، ولا هو مجرد تنبؤات “بتسونامي” أو تكهنات بزلازل لا أساس لها، بل هو حقيقة بدأت الصحافة الغربية تتناولها بشكل شبه يومي، وبدأ المسؤولون الأوروبيون يعبرون عنها عند كل منعطف بالحرب الأوكرانية خاصة، ولاسيما تلك المنعطفات التي جعلت دول “الأوروبي” تخسر كثيراً، في الطاقة، والاقتصاد، والأهم منهما في مجالي الأمن والسلام.
وآخر ما تمَّ تسريبه، تلك الوثيقة التي سميت “الطموحة”، ونقلتها “ناشونال انتريست”، حيث تحدد بوصلة إستراتيجية جديدة للأمن والدفاع الأوروبيين ترسم مساراً جديداً للمضي قدماً في السياسات الخارجية والدفاعية المشتركة للكتلة بعيداً عن الولايات المتحدة، وتعطي زخماً جديداً لهذا الأمن الذي هددته الحرب الأوكرانية.
إذاً الوضع المستجد، الذي فرضته الحرب في أوكرانيا، بدأ يرخي بظلاله على علاقات “الأوروبي” مع أميركا، وبكل تجلياتها، في السياسة والاقتصاد والتجارة والعسكرة والأمن، وجعل مسؤولين في “الاتحاد” يرفعون الصوت عالياً، ويطالبون بضرورة الخروج من حالة الخضوع لواشنطن، داعين دولهم إلى تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل في كل علاقاتها مع أميركا، وبشكل كامل.
هذه الأصوات سبقتها أيضاً خلال السنوات الماضية مطالبات باتجاهات أخرى، مثل الشروع بخطوات بناء جيش أوروبي بعيداً عن قوات الحلف الأطلسي “الناتو”، وبالتالي الدفاع عن السلامة الإقليمية دون طلب المساعدة من الحلف، ناهيك عن طرح مفهوم الاستقلال السياسي الحقيقي لأوروبا بعيداً عن الهيمنة الأميركية.
لكن السؤال الأهم الآن: هل هناك مكان حقيقي لمثل هذه التوجهات والطروحات، أم إنها مجرد أحلام للبعض لا تسمن ولا تغني من جوع؟
في الواقع ندرك جميعاً أن الأوروبيين هم أميركيون في السياسة، وتبعيتهم العمياء للسياسة الأميركية واضحة في كل أزمات العالم وحروبه وعلاقاته، وعدم قدرتهم على تشكيل رؤية خاصة بمصالحهم في غاية الوضوح حتى الآن، ودورانهم في فلك السياسة الأميركية كأنه قدر لقارتهم، وفوق هذا وذاك ثمة عامل مهم يدعم هذه التبعية، وهو تزعُّم بريطانيا للاتجاه الداعم للحاق الدائم بالقاطرة الأميركية، وتأييدها الأعمى لواشنطن في الأزمات الدولية.
لكن رغم كل هذه المقاربات، هناك من يرى أن ثمة حكومات أوروبية لديها مقاربة مختلفة، مفادها بناء هوية للدفاع مستقلة عن حلف “الناتو”، وتستغني عن الولايات المتحدة كمزود أمن إقليمي، والبحث عن مصالح أوروبا قبل مصالح أميركا، والاستقلالية في القرار السياسي، وعدم الحاجة لمساعدة واشنطن، التي تنظر من منظارها الضيق، ومن خلال مصالحها الإستراتيجية فقط، فهل نشهد تطبيقاً على الأرض لهذه المقاربة في الزمن القادم؟