ليست المسافة بعيدة، في النتائج السياسية، بين “الصبر الاستراتيجي” الذي أعلنه الرئيس الأمريكي باراك أوباما، جوهر خطته لمواجهة الأزمات الدولية، وبين “الحول السياسي” الذي يقابل به أتباعه من “قادة” المنطقة وحكامها أزماتها المستجدة والدائمة.
وبالتأكيد كان يمكن لنا أن نصفق بحرارة لـ “سلمية” أوباما ورغبته “بعدم التسرع في إدارة الأزمات”، لو لم يكن الرجل، بما ومن يمثّل، هو من أشعل فتيل هذه الأزمات، وهو ذاته من يسهر على صب الزيت فوقها وفق “خطة استراتيجية” محكمة، يبدو أنه حان الآن وقت “الصبر” لمراقبة “الطبخة” وهي تنضج كما يراد لها.
وبالعين المجردة يمكن للجميع ملاحظة أن لهذا “الصبر” هدفين مترابطين، الأول يخص منطقتنا، ويتمثل بالصبر على “داعش”، وأشقائه، حتى يحرق الأخضر واليابس ويستنفذ دوره المرسوم، وبعدها يمكن “للصابرين” في البيت الأبيض خلق “بعبع” آخر يبدو “داعش” أمامه فصيلاً معتدلاً بامتياز، والهدف الثاني يخص روسيا، ويتمثّل بالصبر حتى تخنقها العقوبات الاقتصادية، وينتقل الإشغال الناري على حدودها مع أوكرانيا إلى داخل موسكو ذاتها، كما صرح أكثر من مسؤول روسي كبير.
وإذا كان كل ما سبق أمراً نفهمه باعتبار السياسة مصالح أولاً وأخيراً، وإن كنا لا نتفهمه أخلاقياً وإنسانياً، لكن “الصبر الاستراتيجي” ليس اختراع أوباما، والبراءة مسجّلة باسم العرب، الذين صبروا ويصبرون منذ نحو مئة عام على “سايكس بيكو”، ومنذ أكثر من ستين عاماً على احتلال فلسطين، ومنذ نحو ثلاثة عشر عاماً على إذلال “إسرائيل” العلني لهم حتى تتفضل بقبول مبادرتهم الشهيرة للسلام- الاستسلام، كما صبروا على التكفير ودعاته وأفكاره وتياراته وهي تتغلغل في ثنايا عقولهم، حتى ساهم بتحويل العرب في مطلع القرن الحادي والعشرين من مشروع قيام أمة واحدة إلى واقع قبائل متعددة متناحرة، بعد أن حوّلها رسول الإسلام، قبل نحو خمسة عشر قرناً، من قبائل متفرقة إلى أمة موحّدة تصنع التاريخ.
والحال فإن “الصبر” ليس اختراعنا الوحيد، فلدى العرب براءة اختراع أخرى في “الحول السياسي” وهم الذين اعتادوا الدعوة، ومنذ أمد طويل، “لأندلس إن حوصرت حلب”، وها هي الأردن مثلاً تدّعي محاربة “داعش” في شمال سورية، وتدعمها بكل الوسائل الممكنة، ولو بمسميات أخرى، في الجنوب السوري.
والأمر فإن “الحول” ذاته هو ما يمنع العرب من قراءة الخرائط التفتيتية المقترحة لدولهم، حتى التي تشارك أوباما صبره، والتي أصبحت قيد التنفيذ النهائي، و”الحول” أيضاً هو الذي يمنعهم من فهم جوهر السياسة العملية وأسسها البسيطة، والأخطر من كل ذلك، أن هذا “الحول” لا يقتصر على السياسة، بل يتعداها إلى الحول الأخلاقي، وهو ما يتمثل في تشجيع علني من “كتّاب عرب” في صحيفة ليبرالية نفطية للأردن وجيشه بأن يتورّط بصورة ميدانية مباشرة في سورية عبر إقناعه “أن الطريق إلى داعش يمر عبر دمشق”..!!، متناسين دور نفطهم ووهابيتهم وأفكارهم في صنع “داعش” واستمراريته.
بيد أن في الأمة رجالاً يمكن القول: إن “الصبر الاستراتيجي” الحقيقي و”الرؤية الصحيحة” بعض من صناعتهم وميزاتهم أيضاً، لذلك هم لا ينتظرون أن يتحلى العدو بالأخلاق كي يتراجع عن عدوانه، لأن الدروس التاريخية تقول: إنه لن يتراجع إلا مكرهاً، ولا ينتظرون أن يغيّر “الأتباع” سياستهم حتى يغيّر السيد أو يأمر بالتغيير، ويعرفون أن لـ “صبر أوباما” و”حول” بعض العرب نتيجة واحدة، والمواجهة، تالياً، في الميدان وحده، وهو فيصل وشاهد.
بقلم: أحمد حسن