الشريط الإخباري

لؤي كيالي… سيرة فنية اخترقت الحدود تعاظمت بعد رحيل صاحبها

دمشق-سانا

أن يصل المبدع إلى حدود العالمية وهو مقيم في بلده وفي سن صغيرة أمر لم يتأت إلا للقليل في طليعتهم الفنان التشكيلي العالمي الراحل لؤي كيالي بسيرته المتماهية مع الفن وحياته القصيرة.

كان كيالي استثناء في كل شيء في إنجازاته الفنية وحياته القلقة الغنية ورؤاه التي بثها عبر حوارات صحفية واعتبر على نحو عالمي أنه أحد رموز الفن التشكيلي في منطقتنا فاحتفل محرك البحث غوغل بذكرى ميلاده ووصفه الناقد التشكيلي الإيطالي فازنتيني بأنه وجه الحضارة العربية المعاصرة أما لوحاته فتباع حاليا بأسعار مرتفعة في كبرى المزادات العالمية.

ولد كيالي في منزل عربي في حي سويقة حاتم العريق بمدينة حلب في الـ21 من كانون الثاني من عام 1934 وكان أول ما وعاه في هذه الدنيا شجيرات الفل والياسمين وعريشة العنب وأصص الزهر التي زينت صحن الدار وكان الصبي الوحيد بين ثلاث بنات ولنا أن نتوقع مقدار الدلال الذي حظي به من أسرته وما أحاطته من حب.

تعلق لؤي الطفل بالفن ظهر مبكراً حيث كان في سن الحادية عشرة عندما رسم لوحة بورتريه لجده كما روى هو لاحقاً مستخدماً اللوح الحجري الأسود والطباشير المستعملين في المدارس الابتدائية فجاء التجسيد صورة طبق الأصل عن وجه الجد لتبشر هذه اللوحة بميلاد فنان عظيم.

تشجيع عائلته له دفعه لأن يغذي اهتمامه أكثر بالفن فبدأ بشراء بعض الصور الملونة لكبار الفنانين أمثال ليوناردو دافنشي وأخذ ينقلها على القماش وبالألوان الزيتية.

وخلال لقاء لملحق جريدة الثورة الثقافي أجراه معه الناقد التشكيلي الراحل صلاح الدين محمد سنة 1976 استعاد كيالي التحول الأول الذي عرفته موهبته عندما دخل المدرسة الإعدادية فكف عن تقليد اللوحات وصار يرسم عن الواقع لمواضيع تمثل طبيعة صامتة بتوجيه من مدرس الرسم الفنان غالب سالم كما كان يرسم لوحات لأسرته واقربائه ولممثلين وممثلات معروفين.

ويستعيد رفيق الفنان الراحل في مدرسة التجهيز الأولى بحلب ثانوية المأمون الأديب وليد إخلاصي كيف كان كيالي يقبل على الرسم بمجرد أن تقع ورقة بيضاء بين يديه ليقيم في المدرسة معرضاً لأعماله وهو في الـ 18 من العمر.

في أواخر عام 1956 تقدم كيالي إلى فحص بعثة أعدتها وزارة التربية (المعارف وقتها) لإيفاد طلاب يدرسون على حسابها في أوروبا وكان الفحص يتألف من رسم لوحة طبيعية بالألوان مأخوذة عن الواقع ورسم لامرأة عجوز من الخيال منفذة بالرصاص وسؤال في الثقافة الفنية وكانت النتيجة أن كيالي كان الناجح الأول والوحيد.

كيالي الذي هجر دراسة الحقوق حباً بالفن استثمر إقامته في العاصمة الإيطالية روما للدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة لأقصى حد فشرع يقيم المعارض ويشارك في المسابقات ففاز في بحر عامين بجوائز كبرى متفوقاً على نظرائه الطليان في عقر دارهم من مسابقات سيليسيا ورافينا وكوبيو ولاتري.

وفي عام 1959 أقام كيالي معرضه الأول في صالة لافونتانيللا بمدينة روما والذي استرعى انتباه ناقد إيطالي بارز اسمه باولو بوتشيني فتوقف عند تفوق كيالي على الرسم الحائطي الإيطالي المسمى فريسك وإظهاره للإنسان في مظاهره الاكثر حساسية والاكثر شاعرية بإطار حزين.

وسعى كيالي بمجرد عودته إلى الوطن بعد إنهاء دراسته لأن يضع بصمة في الحراك التشكيلي السوري الذي كان يضج بأسماء كبيرة تتنافس فيما بينها فأقام معرضه الفردي الثاني عام 1960 في صالة الفن الحديث بمدينة دمشق والذي جذب اهتماما منقطع النظير حيث تعرف جمهور الفن على مدرسة لم يرها من قبل تمثلت فيما سمي واقعية غير تقليدية بأسلوب مغاير لما هو سائد يجمع الرقة والعنف والحزن.

ووزع كيالي حياته في تلك الحقبة بين مرسمه الذي أقامه في حي العفيف وبين تدريس الرسم في ثانويات دمشق ثم في المعهد العالي للفنون الجميلة كلية الفنون الجميلة لاحقاً وفي الإعداد للمعارض الفردية التي انهمك في الإعداد لها بصورة محمومة فبلغ عددها 12 في دمشق وبيروت وروما وميلانو واللافت أن نجم لوحاته كان بلا منازع الناس البسطاء.

كان كيالي يؤمن بأن الفنان ليس سوى إنسان يريد أن يقول شيئا ولكنه يختلف عنهم بما لديه من حساسية مرهفة بالحوادث الحياتية حتى في أدق جزيئاتها وأشدها التصاقاً بالإنسان.

وكمن يستشعر حجم الكارثة ما سيطال الأمة أقام كيالي معرضه الأكثر شهرة والذي جلب له أيضا الكثير من المتاعب تحت عنوان /في سبيل القضية/ في الـ 24 من نيسان 1967 بالمركز الثقافي في ابو رمانة وضم /30/ لوحة مرسومة من الفحم تلخص المعاناة الفلسطينية حيث يشير الناقد التشكيلي سعد القاسم إلى أن القدر شاء أن تقع نكسة 5 حزيران والمعرض لا يزال قائماً ما أثر في نفسية كيالي فأحرق اللوحات كلها وأرشيفه الصحفي ثم دخل في أزمة أدت إلى تركه التدريس.

نجاح كيالي الساحق واعتباره نجما تشكيليا وبيعه جميع لوحات معارضه بصورة غير مسبوقة حينها منحه التفاف المعجبين والصحفيين حوله ولكنه جلب له عداوات كثيرة واتهامات من كل صنف ولون ما سيجعل هذا الفنان شديد الحساسية والمرهف يقع فريسة مرض نفسي صاحبه لنهاية حياته.

غير أن أعراض المرض التي داهمت كيالي بحد ذاتها سلطت عليه المزيد من الضوء لأنه صار يقضي جل وقته بين عيادات الأطباء النفسيين ثم يغرق في عزلة طويلة ليفاجئ الجمهور وهو في صلب معاناته بإقامة معرض جديد وهكذا دواليك.

كانت قصة مرض كيالي أحد أكبر الألغاز التي شغلت الوسط التشكيلي السوري فعلل البعض الحادثة بما لقيه كيالي من بعض النقاد فيما شخص مختصون مثل الطبيب النفسي إحسان المالح حالته بعد رحيله بعقود بأنها اضطراب المزاج ثنائي القطب لأن أعراضها تشمل نوبات مرضية واعراضا اكتئابية وذهانية تعقبها حالات تحسن وعودة للنشاط والإنتاج.

وأخذت حالة كيالي أبعادا أكثر مأساوية فبعد تنقله بين دمشق وحلب واستقراره في الأخيرة ثم قرار هجرته إلى ايطاليا وعدوله عنه أدمن على الأدوية المهدئة المنومة وفي ليلة الـ 9 من أيلول 1978 لم يشعر كيف سقطت لفافة التبغ من يده على فراشه وأحرقته فتعرض لحروق طالت جسده من الدرجة الثالثة.

ولأن كيالي اسم كبير في عالم التشكيل سارع المعنيون في الوسط الثقافي وقتها لعمل المستحيل لإنقاذه فنقل إلى مستشفى الرازي بحلب ثم إلى المستشفى الجامعي فيها ثم حمل بطائرة حوامة عسكرية إلى مستشفى حرستا العسكري بدمشق ضمن رعاية حكومية عاجلة.

وينقل الناقد صلاح الدين محمد الذي كان من بين من زاره في المشفى قوله له.. “لقد أحرق البوذي نفسه من أجل فيتنام” مشيرا إلى اتفاقية كامب ديفيد التي وقعتها مصر مع كيان الاحتلال عام 1977.

وفي الـ 26 من كانون الثاني من سنة 1979 وبعد معاناة هائلة مع الألم استمرت ل 108 ايام ارتاح جسد كيالي وعقله ولكن روحه انطلقت إلى مدى أوسع نحو عالم الخلود.

قيمة لؤي كيالي الفنية شمخت يوما بعد يوم واستعاد سيرته ومكانته مثقفون سوريون كبار من الاديب الراحل ممدوح عدوان الذي وصفه بأنه فنان اخترق الحدود والمألوف والناقد الفني عمار حسن بأنه نجم الساحات التشكيلية والأديبة لينا هويان الحسن بأنه ألماسة تشكيلية تستحق أن نلمعها وننفض عنها غبار النسيان أما الناقد الفني أديب مخزوم فوجده شاهداً استثنائياً على حالات الفقر والبؤس والتشرد والاكثر بلاغة في التعبير عن احلام الطفولة.

سامر الشغري