المسلَّمات الوطنية: تكامل أم ثنائيات؟

في طريقنا الواضحة والمتسارعة إلى الحداثة والمؤسساتية منذ مطلع الألفية الثالثة واجهتنا تحديات تمكّنا من التغلّب عليها في العقد الأول من السنين، وبدأنا بالانتقال الواعد إلى تحقيق غير قليل مما يكفل تعزيز ثوابت الدولة الوطنية بمؤسساتها وسلطاتها التشريعية والتنفيذية والسياسية – تحقيقاً لتطلعات شعبنا… وكانت الحرب، والعدوان الذي لم يوفر شيئاً إلا واستهدفه أقسى استهداف.

… لذلك تبرز اليوم على السطح بقوة ووضوح أسئلة الهوية والانتماء ضمن مسار مفاجىء ومتسارع ومُلّح، أسئلة ينبغي توافر مستلزمات الإجابة عنها، وأولها الوعي والعقلانية والأصالة.
فقد دخل المجتمع والوطن والأمة جميعاً في منعطف خطر لا بد من لحظ تحدياته الداخلية والإقليمية والدولية، القديم منها والجديد، الثابت والمتحوِّل، ما يحتاج معه إلى تفكير عميق وقراءة دقيقة للواقع والمستقبل، بعيدة تماماً عن التسطيح والارتجال وأحادية الرؤية، وهذا ما يستحيل أن ينهض به أو يساعد على إنجازه أشباه الأميين.

هذا الدخول المرير في ذلك المنعطف لا يمكن تجاوز تحدياته ومخاطره إلا بتضافر الجهود وتكاملها لصياغة سرديّة وطنية جامعة للفكر وللممارسة تتلاشى معها الطبقة الرمادية تماماً بمخاطرها القاتلة. سرديّة، لا سرديّات، لا يُحتاج معها إلى الاجتهاد في توليد المصطلحات واشتقاقها والاختلاف في فلسفتها ومنطقها، وفي معرض هذا لا بأس هنا بالأخذ بمأثور القول: العلم نقطة كبّرها الجاهلون.

فما أحوجنا إلى وعي المسلّمات الوطنية الواضحة في هذه الأيام، والإيمان بها والانتماء إليها، مسلّمات أطلقنا عليها فيما مضى – من بعض ما أطلقناه، واتُهِمنا معه بخطاب حالم فضفاض – الثوابت والمبادىء الوطنية والعروبية في صراعنا مع المشروع الصهيوني وأسسه الأطلسية والرجعية العربية في المنطقة والعالم. إيماناً منا بالقضية المركزية، وبالدولة الوطنية بمؤسساتها المتكاملة، لا الثنائية… وبالعمل “العربي” المشترك الذي كنا ولا نزال دعامته ومرتكزه وأساسه، وفي هذه المسلّمات كانت المقاومة ثقافة ونهجاً حصناً يزيدنا مَنعة وقوة.

فـ “بدون هذه المسلّمات يصبح العدو صديقاً، والصديق عدواً، ويخون الإنسان وطنه، ويخرّب بلده، ويقتل شركاءه في الوطن، وفي العروبة والدين، كما يفقد الإنسان عقيدته، وتخبو روحه، وتضمحل أخلاقه، ويصبح كقشّة تتقاذفها رياح الأهواء، وتعصف بها الشهوات والانحرافات… ما يؤدي إلى تقسيم المجتمع وإضعاف الدولة”.

المسلّمات الوطنية لم تعد اليوم تحتمل ثنائيات ومصطلحات جديدة وتقسيمات واجتهادات نعود معها إلى الفلسفة والمنطق على أساس من السفسطة، بقدر ما تحتاج إلى العلوم الاجتماعية، خاصة الهادف منها والمعزّز للتماسك الاجتماعي سبيلاً إلى مَنعة المجتمع وترسيخ الوحدة الوطنية الكفيلة بتعزيز الإجابة عن أسئلة الهوية والانتماء تلك، لأنها هي القوة التي تصون المجتمع ومعتقداته ومقدساته وتطلعاته، ومصالحه أيضاً.

صحيح أننا لا نستطيع أن نلغي الثنائيات أبداً بالقفز فوقها، الثنائيات الضدية بطابعها الجدلي، فالثنائية “ما كان ذا طرفين، وهي القول بزوجيّة المبادىء المفسّرة للحياة، وهي انعكاس لمظاهر الكون، وتعبير عن ذهنية الإنسان المتقلبة وصراعها في هذا الوجود”. والتضاد أساس التفكير كما يقول الجدليون، لكن الجدل نفسه ثنائية متضادة، كما نعرفه في الخلاف الحاد بين هيغل وماركس، ومثال هذه الثنائيات الليل والنهار، الفرح والحزن، الإيمان والإلحاد. وليست هنا العلمانية والدين ثنائية أبداً، كما يحلو للبعض أن يجتهد هباءً وإضراراً، وتجاهلاً مثلاً لحقيقة أن الدول التي تدّعي العلمانية في أوروبا وأمريكا نصّت دساتيرها على سلطات ليست طائفية فحسب، بل مذهبية أيضاً. فكيف ينشد البعض هكذا علمانية، ويصرف النظر عن الأسس العلمانية والأخلاقية والدينية والوطنية التي طالما أسهمت في تعزيز وحدتنا المجتمعية والوطنية. فالعلمانية ممارسة وليست هوية كما أوضح السيد الرئيس بشار الأسد.

فالمسلّمات الوطنية تكامل، لا ثنائية يعمل البعض من خلالها على تقديم تصوّر زائف هدّام لطرفيها، خاصة أنه في عالم اليوم غاب مفهوم الثنائية في الفلسفة وعلم الاجتماع، وانتقل إلى أفق الخطاب النقدي الأدبي الذي طوّرته البنيوية الفرنسية عن الشكلانيين الروس. وهنا لسنا اليوم بحاجة إلى تطوير الجدل في هذا السياق بقدر حاجتنا إلى حسن تخيّر واقتباس وتوظيف ما يخرجنا من الورطة التي دُفعنا إليها، ووقعنا فيها جراء تضافر عوامل نظرية المؤامرة الواضحة، مع عوامل القصور الذاتي الواضحة أيضاً، والتي ننشد التخلص منها دون نكرانها.

إن المثاقفة في هذه الظروف التي نعيش يجب تجييرها لتكون ذات جدوى تدعم الوظيفة الضبطية والتكاملية لبناء مجتمع لا تهتز فيه القيم الأسروية والأخلاق الوطنية، مجتمع بعيد عن ذهنية التوتر، قادر على رأب الصدوع، ومداواة الجراح، وتعزيز اللحمة الوطنية بما يؤدي إلى العمل سويةً للقضاء على التطرف والتكفير والإرهاب.

فلم نعد بحاجة إلى سجال، وانقسام معرفي واجتماعي، واستيراد تجارب ونظريات بقدر حاجتنا الماسة إلى التسليم بمصالح الشعب وقضايا الوطن تأسيساً على تكامل الجهود والواجبات لدى الوطنيين كافة أفراد ومؤسسات وأحزاب… إلخ.
فالعلم نقطة، والوطن أفق.

بقلم: د. عبد اللطيف عمران