دمشق-سانا
استطاع الفنان بشار مجركش أن يساهم في إحياء التراث من خلال استعادة أجواء البيئة الشامية التي عاش طفولته بين حاراتها القديمة فجسد حنينه إلى بيت العائله الذي مازال موجودا في باب الجابية بدمشق القديمة على شكل هياكل وماكيتات ومجسمات توثق بطريقة جميلة كل ماكان يزخر به البيت الدمشقي القديم من عادات وأزياء وأدوات ونباتات ومناسبات اجتماعية.
بدأت القصة كهواية منذ اثني عشر عاما عندما كان مجركش يعمل في قصر العظم الأثري فبهر بالأجواء التراثية الشعبية ماجعله يبدأ بتقليدها ومحاكاتها وتجسيدها حتى صارت عنده حرفة يدوية ولكن بروح ونفس الهواية وحتى الآن لاينجز القطعة من منطلق تجاري بل يستمتع بعمل الماكيت المجسم ويضيف عليه أفكارا جديدة في كل يوم حتى لايكرر نفسه وبالرغم أنه يبيع بعضها الا أن شعور الهواية يسيطر عليه رغم استثماره لها تجاريا.
وعن طريقة الصنع يتحدث مجركش لـ سانا الثقافية قائلا إنه بعد تجهيز الأرضية يبدأ بتصنيع الإكسسوارات فيعمل عددا كبيرا من كل قطعة كالأركيلة والحاكي وصندوق السمع ثم يشرف على تصنيع شخوص العمل في ورشات متخصصة فهناك من يتخصصون بالرأس وآخرون للجسم ثم يأتي اللباس الشعبي بكل تفاصيله فكما في الواقع كل شخص متخصص بشيء كذلك هو يعتمد على حرفيين مهنيين ليحصل على مشهد متكامل متناغم مع الحياة اليومية.
ويستغرق تطبيق المشهد بعد تأمين جميع مكوناته عدة أيام مراعيا المتانة والاتقان في تثبيت القطع حتى الصغيرة منها لدرجة أنه يستطيع حمل الماكيت كله من أصغر قطعة فيه مستخدما المسامير أحيانا لكن بطريقة مخفية وغير ظاهرة ولمحاكاة مشاهد واقعية من الحياة الدمشقية بشكل عام يسعى مجركش الى وضع المواد والأدوات التي كانت مستخدمة في الحياة اليومية لذلك قد نجد فيها الفخار والزجاج الرقيق الأوبالين والمزهرية الصغيرة والمصب المصنوع من النحاس الحقيقي وكل ماهو مستخدم لدى أجدادنا وجداتنا.
ويشرح عن ماكيت أرض الديار مثلا أنه عبارة عن شخصين يلعبان طاولة الزهر قرب البحرة ويأخذان نفس أركيلة وخلفهما الشيش والعريشة وماكيت اخر عبارة عن غرفة داخلية على أرضيتها سجادة وشخصان يلعبان الزهر أما ماكيت الكبة فالخشب عنصر رئيسي فيه ثم أنواع من المعجونة لمحاكاة شكل الكبة بألوان قريبة من الواقع أي لون الكبة قبل الشوي ولونها بعده ويضع كمية من البرغل الناعم الحقيقي قبل الطحن بعد معالجته بمواد تحفظه من التسوس مثل اللكر وكذلك محاكاة اللحم قبل الطحن وبعده بألوان مشابهة من المعجون أما جرن الكبة فهو مصنع من الخشب فيما قام بتصنيع صينية الكبة من المعدن وكذلك المنقل الذي يشبه المنقل العادي من معدن التنك ايضا ولم ينس الفانوس القديم والقطة التي تقعي بعد أن شمت رائحة اللحم.
ويوثق مجركش في مجسماته لأدق التفاصيل في أرض الديار وهذا ما يظهر في جلسة عائلية حول البحرة والأركيلة حاضرة دائما تحت عريشة على سقالة وياسمينة لم يكن يخلو منها أي بيت دمشقي.. ويظهر كذلك في ماكيت الحمصاني والفوال في الحارة الشامية من خلال صحن الفلافل وقدرة الفول وجدائل الثوم وكيس البصل وزير الماء والحمص الجاف قبل النقع في الماء والمنخل وطبق القش وكرسي القش والمخلل.
وتعطي الألوان التي يختارها رونقا للمجسم والكثير من الواقعية كلون الليمون ولون البندورة فاللمسات الفنية والذوق الفني واضح في تناغم الألوان لدى أعماله التي يقول انها مرغوبة وتحظى بإقبال الناس وخصوصا من قبل المغتربين والسياح الأجانب لكن ظروف الأزمة حدت من ذلك وتركت تأثيرها السلبي على التسويق فقد كان المغتربون حريصين على اقتنائها من أجل نقل صور من الحياة الشامية لأبنائهم الذين نشوءوا وترعرعوا في الغربة لكي يتعرفوا على تراث آبائهم مشيرا إلى أن أكثر الأعمال المطلوبة هي مشهد الكبة ومشهد البحرة والحمصاني وأسعارها بشكل وسطي هي 12 ألف ليرة سورية.
ويعمل مجركش في منزله على نطاق محدود ودون مساعدة أحد ويحصل على مواده الأولية من الأسواق القديمة في دمشق كمحلات التطريز والكلف ولوازم الخياطة وبعض المواد والقطع والأشكال من محلات الحدادة والنجار.
ويطمح ابن دمشق الى أن يكون له مشغله الخاص وورشته التي يشرف عليها فالعمل في منزله الصغير محدود وله تبعاته كالغبار الناتج عن الجلخ ولكن الامكانات المادية تحول دون ذلك بالرغم من أنه خريج أدب انكليزي ويدرس ماجستير ترجمة ويطمح إلى مواصلة الدراسة والحصول على الدكتوراه فهو يتمنى أن يكون له مشغل واسع لكي يتمكن من تصنيع ماكيتات بمشاهد كبيرة ومتكاملة وتطوير عمله فبيته الصغير يفرض عليه تصنيع قطع بمقاسات صغيرة 26 ضرب 28 سم كما يتمنى لو يمتلك بيتا دمشقيا كبيرا لكي يحتفظ فيه بالأدوات التي كان يستخدمها أجداده في البيت الشامي.
ويرى مجركش أنه مازال يتعلم كل يوم شيئا جديدا في حرفته التي يحبها والتي يشعر أنه يساهم من خلالها في اعادة احياء ماهو تراثي قديم وخصوصا جوانب الحياة الدمشقية التي نفتقدها اليوم.
سلوى صالح