يعود مشهد الاصطفافات السياسية إلى تصدر مجمل المقاربات إقليمياً ودولياً، خصوصاً بعد العدوان الثلاثي الأرعن الذي اقتضى في حينه إعادة تموضع سريعة وآنية للمشغلين الإقليميين للإرهاب في استجابة لمتطلبات الاصطفاف على جانبي المشهد، وإن كانت في أغلبيتها جاءت نتيجة حتمية لما فرضته آلية الاعتداء من مواقف وتداعيات ترافقت بصخب سياسي واستعراض أهوج للعضلات، دفعت بعض الحمقى وصبيان السياسة إلى الذهاب بعيداً ورسم صورة افتراضية تجانب الحقيقة، وتخالف الواقع والتطورات اللاحقة.
فحسابات العدوان الثلاثي لم تطابق حساب بيدر المشغلين الإقليميين للإرهاب، كما لم تؤازر معادلات العدوان، خصوصاً أنها رسمت علامات استفهام كبرى على الواقع السياسي وتجلياته، وتركت الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام استنتاجات تبدو أكثر رعونة من العدوان ذاته، وأشد وطأة في حماقتها من منفذي العدوان أنفسهم، باعتبارهم وفق مختلف التحليلات الغربية وصلوا إلى سقوف لم يصلها أحد من قبلهم، وكان لهم فيها السبق في الغطرسة والتهور.. وصولاً إلى محاكاة أقصى درجات العربدة والعدوانية، وهذا ما فرض إيقاعه على مستويات التناغم بين الوكيل والأصيل في صيغ ممجوحة دفعت إلى بروز التباينات الحادة في القراءة والاستنتاج.
ومع تراكم التداعيات كان لابد من إعادة تموضع إضافية، تحاكي من خلالها الأوجه المحتملة، وتقدم تفسيرات أظهرت بشكل تلقائي جوانب الخلاف والتناقض بين الأصيل والوكيل إلى درجة التزاحم على تقديم الخدمات المجانية، حيث إن مأزق المشغلين الإقليميين بدا مستفحلاً، ودفع بأغلبهم إلى الهروب من أزماته الداخلية ومحاولة تصديرها إلى الخارج، بدءاً من النظام التركي.. وليس انتهاء بالمأزوم السعودي، مروراً بالكاريكاتير الإماراتي الذي يقدم نماذج مذلة من التبعية والخنوع، حيث يتفوق فيها على القطري، ويتقدم نظيريه السعودي والتركي معاً.
ويستفحل المأزق بعد أن بدأ ثلج الأكاذيب الغربية بالذوبان، جنباً إلى جنب مع ارتفاع حجم بيع الأوهام التي تروّج لها منظومة العدوان إقليمياً ودولياً، وبدا جلياً أن الحسابات هنا غير تلك التي سوّقتها، وأن المعادلات اختلفت عن تلك التي كانت ترسمها، بدليل أن إعادة التموضع تشمل الأدوار الوظيفية، والبحث عن مهمات إضافية جديدة، ليس آخرها العرض السعودي الذي يعكس مؤشر إفلاس يترجم إلى حد بعيد انتهاء مفعول الرشوة التي قدمها نواطير الغاز والكاز للأميركي، وثمة إضافات نوعية على مفهوم الرشوة السياسية، حتى لو اقتضى الأمر الدخول في نفق مسدود، لا يمكن الخروج منه.
فالسعودي الذي يتنطّع لأدوار تفوق طاقته، يقابله التركي على المنحى ذاته بتهور لا يقل في تداعياته عمّا ذهب إليه نظام آل سعود، ليبحث الاثنان عن شراكة في المأزق قد تخفف حدة الخلاف، أو في أقلها تقرّب بينهما، باعتبارهما سيكونان في مركب واحد، خصوصاً مع تواتر الأخبار والمعلومات عن أن احتمالات خروج أميركا لم يعد مجرد طرح في لحظة غفلة، بقدر ما هو انعكاس لمأزق أميركي واضح، تبدو فيه الخيارات شبه مغلقة، بعد أن جرب العدوان وقبله الاعتماد على الإرهابيين والمرتزقة، ووصل إلى الحائط المسدود.
إعادة التموضع قد تبدو حاجة متبادلة للمشغلين الإقليميين، كما هي لمنظومة الغرب العدوانية، وهي في الوقت ذاته، قد تكون حلاً مؤقتاً يتراءى كسراب يُصلح بعض عيوب ما ظهر، ويخفف من حدة التناقضات في الأولويات التي تطفو على السطح بشكل نافر، لكنها بالمطلق ليست خياراً، بدليل أن سقف ما هو متاح في لعبة تبديل الطرابيش هو ترحيل بعض التأزمات القائمة، أو تسكين أوجاع بعض التورّمات، لكنه لا يقدم حلاً، ولا يلغي أطماع النظام الغربي الاستعماري ولا ينهي أمراضه المستعصية التي تنتقل بالعدوى إلى المشغلين الإقليميين على شكل استطالات مرضية أكثر استعصاء.
الفرق هنا يبقى في أصل المقاربة، لأن من يعرض خدماته، سواء أكان سعودياً أم تركياً، لديه ما يكفي من تأزم داخلي وخارجي، وسيزيد من حجم الاستعصاء سواء أكان في المشروع الإرهابي الغربي وامتداداته الإقليمية، أم ارتبط بمشاريع احتلال يعيد تموضعها مع تغيير في مسمياتها وأشكالها، فالاحتلال إلى زوال ولو بعد حين، والإرهاب في رحلة عودة من حيث جاء.. وقد بدأت مؤشراتها ومعطياتها، وإن تأخرت بعض الوقت.
بقلم.. علــي قـاســـم