قد لا يتأخّر حلف شمال الأطلسي في سلخ تركيا وإبعادها عن جسده المتشنّج هذه الأيام، ليس لنزاهة الحلف، بل لـ”انعدام الجدوى الاستراتيجية” وهو مسوّغ كافٍ في أعراف الناتو للتخلص من بؤرة مشكلات بدأت بالتزامن مع “استيلاء” حزب العدالة والتنمية على السلطة، في بلد بات وصمة حتى للناتو، فلنتخيّل حجم الانحطاط الذي يحيق ببلد كان شعبه مسكوناً يوماً بأحلام العلمانية والنماء اللامحدود!!.
بلد العلمانية الصاعدة انزلق في متاهات السلفية الهابطة بمنهجها وذهنياتها المتردية والمرتدة على كل أشكال التنوير ونفحات الحضارة، التي حاول الاعتداد بها وهو يتوجه للمصافحة مع الاتحاد الأوروبي يوماً، وفشل على خلفية المقدمات التي قرأها الأوروبيون في وصول أردوغان وحاشيته إلى “مقصورة القيادة” وبدء متوالية الارتكاس التنموي، وهي مقدمات تصب في خانة الاستنتاج ذاته، “انعدام الجدوى الاستراتيجية” بكل ما ينطوي عليه هذا العنوان من تفاصيل ومضامين.
ما نذهب إليه هو نبوءات ترتكز على معلومات ومعطيات واقعية، ثم على البراغماتية التقليدية للغرب في تعاطيه مع تحالفاته بكل أشكالها: العسكرية والاقتصادية-التجارية والجمركية، فلنسأل هنا إذن: عن أية جدوى فعلية يمكن أن يضمنها حلف “الناتو” من وجود عضو متهالك في قوامه، مثل تركيا، التي لم تعد شريكاً فاعلاً يخدم طموحات “سطوة الحلف” بقدر ما هي تهمة تتطلب المصالح التاريخية الإسراع في غسلها، ليس انطلاقاً من أخلاقيات الناتو ونُبل أدبياته، بل لتخبط “عصابة العدالة والتنمية” بشكل يتوعد الحلف القديم بجرّه إلى مستنقعات آسنة لا طاقة له بالخوض فيها ولا الخروج منها، وقد لا يكون “المستنقع” الذي أنتجته لغبصات أردوغان وحاشيته في سورية الوحيد، بل ثمة بؤر خطرة أشعلتها حماقة “السلطان المجنون” أيضاً في العراق ومناطق متفرقة من آسيا الوسطى تهدد مصالح بعض أعضاء الناتو، إن لم تهدد مصالحهم مجتمعين.
الآن يتخبط أردوغان المضطرب على تخوم منطقة “عين العرب” ويتلعثم في الحديث عن منطقة عازلة محاولاً استدراج “الناتو” وتوريطه في مهمة تنفيذ فكرة مجنونة من إنتاج نوبات الهستيريا الموصوفة التي تعصف به، فهو يتحدّث عن حتمية مكافحة داعش، لكنه يمنع الأكراد القادمين لمؤازرة أهلهم من عبور الحدود باتجاه عين العرب، التي يفتك بأهلها إرهابيو داعش، وفي الوقت ذاته يدفع بتدفقات الإرهابيين لتعزيز الإرهاب في عين العرب وسورية عموماً، كما يتحدّث عن استعدادات لاحتضان عمليات تدريب ما يسمى “المعارضة المعتدلة” على التوازي مع تدريب المتطرفين التكفيريين!!.
الآن وبعد قراءة مجمل الوقائع، بات مُرجحاً أن أردوغان سيحوّل تركيا إلى “ممسحة” أو “سلة قمامة” تُلقى بها مخلفات خطايا وارتكابات كل داعمي الإرهاب، من واشنطن إلى العواصم الأوروبية إلى الأخرى العربية، فالمرتكبون يزعمون هذه الأيام تحالفاً لمكافحة داعش والإرهاب، ويحاولون رسم ملامح خط رجعة يحفظ ما بقي من ماء الوجه، لتبقى تركيا أردوغان “أوقح وأسفه” طراز سياسي داعم للإرهاب عرفه التاريخ الحديث، وسنترك للشعب التركي -الذي نتعاطف معه في مأزقه- مهمة تقدير حجم الحماقة التي تعصف بقرارات “أكثرية مُفبركة” تسللت وسطت على برلمانهم وحكومتهم والآن على سدّة الرئاسة في بلدهم.
على الأرجح ستكون نهايات الأزمة في سورية، بدايات أزمة في تركيا وسواها من بلدان تدجين ودعم الإرهاب وهاهي الأزمة في تركيا قد بدأت بدلالة يوميات الدم المسفوك في معظم مدنها، ولعل الشرخ الذي افتعله أردوغان في بنية المجتمع التركي أضعاف أضعاف الشرخ الذي صنعه بتآمره على الشعب السوري، الذي استطاع، بصمود جيشه وقيادته، استعادة زمام المبادرة في الميدان العسكري وفي أروقة السياسة، ويعلم كل الذين “يهرشون رؤوسهم” اليوم أو يزعمون ذلك من أجل “تطويق داعش” أن سورية قادرة على اختصار كل هذا الضجيج والقضاء على إرهاب داعش وسواها لو كف الداعمون من “طراز” أردوغان عن اللعب بالنار.
وستثبت الأيام القريبة القادمة أن اجتثاث جذور الإرهاب مهمة سورية بامتياز، وتبقى استعراضات “التحالف” والقفز في الهواء، استعراضاً ليس إلّا.
بقلم: ناظم عيد