لماذا يُقدم رئيس أمريكي على الاعتراف رسمياً بالقدس العربية عاصمة لـ “إسرائيل” ويأذن بنقل سفارة بلاده إلى قلب المدينة المقدسة، في مخالفة لما جرت عليه السياسة الأمريكية منذ فترة طويلة، وفي خطوة ربما تؤجج الاضطرابات في المنطقة، وهو الذي لم يبد أي اهتمام بحل الصراع العربي الإسرائيلي، ولا بمحادثات السلام الفلسطينية الإسرائيلية، ولم يضع أية خطة بهذا الشأن، ولم يواجه أية صعوبة بإقناع طرف ما بأي طرح؟. ومالذي تعنيه مسألة مستقبل القدس بالنسبة لرئيس تتمحور استراتيجياته حتى الآن حول الانسحاب من الاتفاقيات والمؤسسات الدولية، والانكفاء إلى الداخل الأمريكي، حيث يواجه وضعاً قلّ أن صادفه رئيس من قبل؟، ولماذا يصرّ ترامب على قراره وسط تريث وتحذير غالبية طاقمه ومستشاريه بحيث يتفوّق في هذا القرار الطابع الفردي شبه المحض؟.
أسئلة كثيرة ترمي بشبكة واسعة من الشكوك حيال خطوة صادمة ومرتجلة لا يكفي الاتهام بالاستهتار وغياب الشعور بالمسؤولية وحدهما لتفسيرها. فالمسألة تتجاوز الأبعاد السياسية الآنية والضيّقة لتطال قضية صراعية مشحونة بكامل الطاقة الرمزية والدينية والتاريخية والحضارية، لا لشعب واحد، وليس لـ “شعبين” اثنين، بل لكل أتباع الديانات السماوية الثلاث: الإسلامية والمسيحية واليهودية، ولكل أنصار السلام وفي كل بقاع الأرض. وكيف يجرؤ رئيس دولة، حتى ولو كانت الولايات المتحدة الأمريكية، على التفرّد بسابقة ترددت حتى الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في نقلها إلى حيز التطبيق العملي؟!.
هذه ليست بسياسة، وهي أفظع من اللعب على حافة الخطر، وأخطر من الجنون. إنها تكشف عن ميول مرضية لنشر الفوضى ومتعة مشاهد الهول، وتفضح التلاقي الرهيب بين دعاوى اليمين الأمريكي الجديد، وريث خيبات المحافظين الجدد، وبين الجنوح الشعبوي الأمريكي، الذي بات يُخضع العمل السياسي لقواعد “السوق” الانتخابية، غير آبه بالمصالح العليا للأمة الأمريكية، ولا بالزعامة العالمية الأمريكية التي أصبحت اليوم رهينة حفنة من السذّج والطارئين، والمغامرين والمتهورين الذين يتراءى لهم أن دفة السياسة العالمية تدار بروح المتاجرة والتمويل، على غرار “صفقة القرن”، وأن المؤسسة الدبلوماسية يمكن أن تطاح جانباً لتحل محلها العلاقات الشخصية بين الأصهار وولاة العهد، على شاكلة بن سلمان وكوشنير، وأن التاريخ يصنع بصفته مناسبات واحتفاليات: 1917 وعد بلفور، فليكن 2017 عام الوفاء بالوعد الترامبي!.
لن يحقق ترامب بتجاوزه الخطوط الحمراء أي هدف استراتيجي. بوسعه فقط الثرثرة عن “شجاعة شخصية” لم يتحلّ بها أسلافه من الرؤساء السابقين، وسوف يتمكّن مؤقتاً من إرضاء المحافظين الإنجيليين واليهود الأمريكيين المؤيدين لـ “إسرائيل”، وبالطبع اليمين الصهيوني، عن يمين ويسار نتنياهو. ولكن صخب الاعتراف، ما إن يمر، حتى يجد ترامب نفسه في محيط من “حلفاء” إقليميين استغل واقع ضعفهم أبشع استغلال، وأحرجهم في لحظة إحباط سياسية هم أحوج ما يكونون فيها إلى شبح نصر. وعندما ستلتهب شوارع الشرق الأوسط، ومدن العالمين العربي والإسلامي، بتظاهرات الاحتجاج والعنف، وتهتز عروش العملاء موشكةً على السقوط، قد لا يجد أمامه إلا التلويح بممارسة الضغوط على حليفه في تل أبيب. ضغوط لن تتعدى حاجز الرمزية بالتأكيد، ولكنها ستعيد البيت الأبيض إلى الدائرة الجهنمية للعبثية السياسية التي لم تمنح ترامب فرصة للهدوء. فأية خطوة تلك التي تهدر كل الرصيد السياسي الذي راكمته الولايات المتحدة الأمريكية، بحذر، كوسيط سلام في الشرق الأوسط، وعلى امتداد سبعة عقود، لتعود به أخيراً إلى نقطة الصفر، بل ولربما تصنّف واشنطن، ابتداءً من الآن، كعدو نهائي للعرب والمسلمين!؟.
لا يعكس ترامب، بقراره نقل السفارة، رؤيته للسلام، أو للعالم، كفرد أو كنهج. هو أدنى وأسخف من ذلك بكثير. إنه أشبه برب عائلة سيئة السمعة، متغطرس ومُفلس، فقد السيطرة على زمام الأمور، ولم يعد أمامه إلا التصرّف بالإرث: إرث شركاء/ أتباع يسميهم الغرب “معتدلين” عرب ومسلمين، وإرث صهاينة لا خيار أمامهم إلا المزيد من التطرّف والتحالف مع الإرهاب الوهابي. فالقدس لن تكون إسرائيلية حتى ولو انتقلت إليها كل سفارات الغرب، والأسرة السعودية قد تجد نفسها مضطرة للمقايضة على سلامتها الشخصية، وليس على مستقبلها في الحكم، في أي وقت. ومن يسمون العواصم العربية اليوم هم المقاومون العرب والعالميون الذين يصنعون بإرادتهم وتضحياتهم وعقيدتهم الوطنية والنضالية الإنسانية ملامح المشرق والعالم الجديدين.
لم يكن ترامب “شجاعاً” على الإطلاق – كما يدعي. كان مجرد لص سياسي أعطى مما لا يملك لمن لا يستحق. كان بلفوراً أمريكياً!.
بقلم: بسام هاشم