دمشق-سانا
شارك الباحث في التراث الشعبي محي الدين قرنفلة في مهرجان سورية الخير الذي أقيم في التكية السليمانية بندوة ثقافية تطرق من خلالها إلى التراث اللامادي في سورية الذي نحن أحوج ما نكون اليه بعد أن افتقدته الأجيال الجديدة نتيجة طغيان العولمة ومواقع التواصل الاجتماعي التي خطفت الأبناء وأبعدتهم عن آبائهم وأجدادهم وحالت دون انتقال التراث اللامادي من جيل إلى جيل.
ويعرف قرنفلة التراث اللامادي بأنه الذاكرة الجمعية الشعبية التي تتجلى في الأمثال والقصص المروية والحكايا والعادات الأصيلة بما تحمله من أهداف تربوية اذ لكل مثل قصة وهو خلاصة حدث معين وكل مروية تعبر عن هدف تربوي أو تحمل حكمة منبها إلى أن الأجيال الشابة أخذت تفتقد هذا التراث شيئا فشيئا ونحن كباحثين نحاول عبر برامج اذاعة دمشق وخاصة برنامج أهلية بمحلية منذ عام ونصف العام حتى الآن شد الناس بهذا الاتجاه اضافة إلى العديد من برامج التلفزيون والبحث المستمر عن هذا التراث وتوثيقه ونشره وتعليمه للجيل الجديد وضرورة الإلمام به.
وصدر للباحث قرنفلة في هذا الصدد كتاب بعنوان “زينة الكلام في دمشق الشام” ويعمل حاليا على كتاب قيد الإنجاز من أربعمئة صفحة بعنوان “الشخصية الشعبية الدمشقية” ضمنه خلاصة خبرته ورصد فيه كل العادات والتقاليد والمثل الأخلاقية والقيم التي كانت موجودة في المجتمع.
وقال في حديث لـ سانا الثقافية إنه في احدى حلقات برنامجه الاذاعي تحدث عن المثل والأخلاق والعادات التي كانت سائدة سابقا لدرجة أنه بكى وهو يرويها لشدة التأثر لكونه عاشها شخصيا .. وبدأ الحلقة بأن أحدهم سأله “من أين أنت”مشيرا إلى أننا لم نعتد أن نسأل بسورية هذا السؤال.. كلنا نعيش في هذا الوطن أخوة وأصدقاء نتزاور ونتحاب ..ولمن يسألني من اين أنت أقول له انا من بلد اسمه سورية.. تعلمنا فيه كيف نكون مسالمين لا نؤذي أحدا حتى النملة ومن بلد يتبادل فيه الجيران السكبة التي تعتبر رسالة محبة من الجار لجاره ومن بلد يحفظ النعمة حتى كسرة الخبز كل هذا بدأنا نفتقده والأمثال الشعبية تقول “جارك القريب ولا اخوك البعيد” الجار ولو جار متسائلا عن هذه العلاقة أين هي اليوم.
وأضاف أن تراثنا اللامادي يحض على احترام الكبير وكيفية التعامل مع الناس ومع الطبيعة ومع الأرض وكيف نكون اخوة متحدين في وجه الغرباء والأعداء فلماذا نفتقد اليوم تلك الروابط الاجتماعية القوية التي كانت تربطنا ببعضنا .. كل هذا يدعونا إلى الاشتغال على هذا الموضوع.. ونحن كمجموعة من الباحثين نعمل جهدنا من خلال الاذاعة والقنوات التلفزيونية والصحف ومن خلال المحاضرات لإعادة هذا التراث وحفظه.
وعبر الباحث قرنفلة عن تفاؤله ببعض الشباب الذين يحضرون ويتابعون محاضراته ويتوسم فيهم الخير فهم يوجهون له الأسئلة وعندهم فضول لمعرفة جوانب من هذا التراث كالمفردات التي كانت مستعملة لدى جداتنا وأجدادنا والتي بدأ يفسرها لهم بعد أن كانوا يتداولونها دون ادراك معانيها الأصلية ومنها عبارات سوريالية تثير الضحك في بعض الأحيان مثل.. “ميت من الجوع طلع الشعر على لساني/آكل من رجليي شقف” ولديه نحو مئة مفردة من هذا النوع ضمنها في كتابه الجديد الذي وضع فيه خلاصة خبرته في التراث الشعبي السوري وليس الدمشقي فقط.
وهناك عبارات مستخدمة في لهجتنا الشعبية أيضا مثل “أخو الشليتة وسرسري” والعبارتان تركيتا الأصل ف “الشليتي” هو مراقب الأسواق أو جامع الضرائب وعندما صار يأخذ الرشاوى من الناس تم تعيين مراقب آخر ليراقبه يدعى السرسري فصار يرتشي أكثر منه.
أما كلمة طز التي نظنها خادشة للحياء فتعني الملح باللغة التركية والقصة أن الملح كان معفيا من الضرائب أيام العثمانيين ولدى سؤال من يحمله ماذا لديك يقول طز فيقول له الموظف لا قيمة له حتى صرنا نستعملها على كل شيء لا قيمة له .. أما كلمة حشت نشت التي تطلق على حثالة المجتمع فهي اختصار لكلمتي حشاشين ونشالين.
وفي تراثنا اللامادي قصص جميلة جدا خلاصتها الحكمة مثل حبيبك حبو لو كان عبد أسود دليل على أن الجمال جمال الروح والأخلاق والجوهر وليس الجمال الخارجي .. وهذه الأمثال دائما مرتبطة بحدث والمثل الشعبي يعطينا حكمتين الأولى ألا نتسرع في الإجابة والثانية ألا يعيب الإنسان أحدا أو أي شيء ويقول المثل .. لا تعيبو بتبتلوا وإذا ما ابتليتوا بتبتلى عواقبكم أي أولادكم وأحفادكم .. وهذه الأمثال لها فائدة في الحياة لكونها خلاصة تجارب.
ومن تعليمات الجدة الحض على ترشيد الماء والحفاظ على البيئة مشيرا إلى أن جمعيات الحفاظ على البيئة وبرامج ترشيد المياه والكهرباء لا تستطيع توصيل الرسالة التي كانت توصلها جداتنا رغم أنهن أميات .. كان الثوب يتم تدويره والاستفادة منه قدر الإمكان ويصنع منه بساط في النهاية .. والفتات التي تقدم حاليا في المطاعم هي مخترعة من فتات الخبز اليابس الفائض عن الطعام بعد جمعه في كيس خام في مكان معرض للتهوية .. ورغم توفر المياه في السابق إلا أن الترشيد كان أساسيا.. كان الاستحمام بالجرن وليس بفتح الدوش وهدر الماء فالهدر يطير البركة لأن المياه نعمة كبيرة يجب احترامها وتقديسها وكذلك الكهرباء.
ويخلص الباحث قرنفلة إلى القول.. إن التراث اللامادي هو عاداتنا وقيمنا ومثلنا الاخلاقية وحكمة الأجداد المتوارثة وهذه المكونات تحافظ على ترابط المجتمع وعلى محبة الناس لبعضهم وتجعل كلا منهم يحترم الآخر ويتقبله بكل محبة وبكل ود فكلنا أبناء سورية وعلينا أن نتعاون ونتعاضد لنعود كما كنا نسيجا واحدا.
وحول الدراما السورية يرى أن مسلسل باب الحارة أساء إلى مجتمعنا السوري والدمشقي وشوه صورة البيئة الشامية .. ونحن كباحثين لدينا وثائق ومعلومات كان من الممكن أن يعود اليها القيمون على هذه المسلسلات ويستفيدوا منها لتكون لها مصداقية أكثر.. كذلك يمكن أن يعودوا إلى المراجع الموجودة في مكتبة الأسد.. متسائلا.. لماذا لم تظهر هذه المسلسلات الوجه الحضاري الجميل لدمشق كالترامواي وكلية الحقوق ونضال المرأة الدمشقية مع يوسف العظمة والمرأة الأديبة والمرأة العاملة في ورشات النول لصنع الحرير البلدي والدامسكو والأغباني .. فقد تم تصوير الحارة على أنها مشاجرات ونكايات بعيدا عن القيم والتقاليد ودون وجود موضوع يخدم العمل.
ويدعو الباحث قرنفلة إلى العودة للأصول والعادات مؤكدا أن تراثنا لا يموت لأنه محفوظ في وعي الذاكرة الجمعية للناس الذين يحفظون كل ما هو جميل ومفيد وهو كباحث يعمل على توثيق هذا التراث لوضعه بين يدي الجيل الجديد فهو يشعر بأنه يحمل أمانة وعليه توصيلها للنفوس الخيرة التي تزخر بها سورية.
كما يدعو أمة اقرأ إلى الاهتمام بالقراءة ويأسف لوجود كتب نادرة في مكتبات الأرصفة لا أحد يقدر قيمتها .. وعبر عن أمله في أن يهتم الجميع وخصوصا الاعلام بكيفية نقل التراث اللامادي إلى الأجيال الشابة والاستفادة من المراجع وما تختزنه ذاكرة الباحثين لنشره.. فتراثنا غني جدا لكون جذورنا تمتد إلى عشرة آلاف سنة لذلك واجبنا جميعا التمسك به كمكون أساسي في هذا الوطن.
سلوى صالح