ربما كانت هذه أخطر مرحلة، ليس في تاريخ الأزمة السورية أو مستقبلها فقط، بل في مستقبل المنطقة بكاملها، وربما في مستقبل النظام العالمي ذاته، وهي أيضاً، وبالتالي، المرحلة الأكثر مدعاة للحيرة والتضارب عند المراقبين والمعنيين، لأنها، بالتحديد، مرحلة الخيارات الكبرى والحاسمة، فإما الاستمرار في هدم الدولة السورية، وهو ما أكدت السنوات السابقة أنه يتمّ لصالح الإرهاب والإرهابيين، وبالتالي لصالح استمرار سيطرة “رعاتهم وآبائهم” على النظام العالمي، وإما الجدية في محاربة الإرهاب، ولهذا شروطه وانعكاساته المعروفة سورياً وإقليمياً وعالمياً أيضاً. وبالطبع قد يسارع البعض إلى نعت ما سبق بـ “اللغة الخشبية” لتسفيهه، لكن من لم يقرأ المعنى الكامن خلف أربعة فيتوات روسية-صينية بخصوص سورية، لا يمكن له أن يقرأ معنى وأهمية شكل التحالف المقبل لمحاربة الإرهاب، في مستقبل العالم، فحتى اللحظة، تشي مقدمات ما يعلن في عواصم القرار الغربي، من واشنطن إلى بروكسل، بعدم الجدية في مواجهة “الإرهاب الداعشي”، بل تؤكد أيضاً أن الهدف الفعلي لا يتعدى مجرد تحجيمه ضمن حدود معينة لاستمرار استثماره في مشروع إدارة الفوضى المقصودة، وأهدافها، عربياً: إسقاط الدولة السورية، دوراً ومكاناً ومكانة، وإقليمياً: إشغال إيران وإرباكها لإخضاعها لاحقاً، وعالمياً: محاصرة الدور الروسي الصاعد بمشاكل متعددة في محيطه الجغرافي-النفخ المتلاحق في نار الأزمة الأوكرانية مثلاً- بعيداً عن مشروع العم “سام” لقرن أمريكي جديد.
والحال فإن الوقائع المعلنة تقول بصريح العبارة: إن “أوباما” يبحث عن تشكيل حلف “داعشي” لمواجهة “داعش”، والدليل مسارعة البيت الخليجي إلى تغطية عوراته الداخلية وإبرام صلح إعلامي بين مكوّناته على وقع أوامر “كيري” بشد الصفوف لمواجهة الابن الضال، كما في إصرار “بروكسل” والسياسي الفذ “فرنسوا هولاند” على استبعاد سورية، بما ومن تمثل، من هذا الحلف، وهذا كله مفهوم من جهة الصورة الكبرى للأحداث والوقائع، فبالطبع، لن يختار “العالم الحر” السلام والأمان بمجرد اعتماد قرار في مجلس الأمن يطلب ذلك، ولو بمشاركته وبموافقته، لأن قرار مجالس إدارة الشركات العابرة و”الناهبة” للقارات، وقيادات المجمع الصناعي-العسكري الحاكم في واشنطن، أولى بالاتباع، وهؤلاء يريدون دولاً راضية بالنهب، وأسواقاً جائعة للسلاح، و”القاعدة” و”داعش” وأمثالهما، خير من يقدم لهم ذلك بالتأكيد.
إذاً، ولأن ما يدفع واشنطن للتحرك، هو فقط إعادة “داعش” إلى المسار المقرر سلفاً، يصبح من المفهوم استبعاد سورية، وبغض النظر عن مخالفة ذلك لنص ومنطوق القرار الدولي “2170″، فهو أيضاً دليل على الاستمرار في العقلية الداعشية ذاتها، لأن المواجهة الجدية ليست عسكرية فقط، بل هي حضارية-ثقافية أيضاً، وبالتالي ليست الحاجة فقط إلى قوة ودراية القوات المسلحة السورية وخبرتها المستقاة من مواجهتها الفعلية والمستمرة على الأرض مع “داعش” وإخوته، بل إلى النموذج الحضاري والثقافي السوري المغاير والمعاكس لـ “داعش” في هذا المجال أيضاً، وهو نموذج لا تقدّمه، ولا تملكه، بالطبع دول كثيرة في المنطقة تجري عملية إعادة تأهيل إعلامي وتنظيف سجل عدلي كي تشارك في الحلف الجديد.
وبالتالي فإن استبعاد سورية، يعني، بكل بساطة، أن الحرب بين حلف “أصدقاء أوباما وهولاند”، وبين “داعش”، هي حرب أهلية بين الأحباب والأصدقاء ذاتهم، والمنتصر فيها إذاً هو “الداعشية” ذاتها كفكرة وممارسة أيضاً.
إنها مرحلة الخيارات الكبرى حقاً، وهي تضيق أمام المعنيين، لأن الجميع، وعلى رأسهم واشنطن، يعرفون أن لا حرباً جدية على الإرهاب دون سورية، وأن الطريق يبدأ بالتشبيك مع دمشق، التي اختارت، في زمن الخيارات الحاسمة، أن تمد يديها لجميع الجادين في ذلك.
وحتى يقتنع البعض بدروس التاريخ وضرورات المستقبل، فإن حقائق الجغرافيا التي تسيل عليها دماؤنا تدفعها للاستمرار بتمثّل المثل الذي لم يقله أجدادنا عبثاً: “ما حك جلدك مثل ظفرك”، أليس كذلك؟!.
بقلم: أحمد حسن