لم يكن الميدان في يوم من الأيام منفصلاً عن السياسة.. لا في معاركه، ولا في قواعد الاشتباك المعمول بها، كما هو الحال في خطوط المهادنة التي قد تحصل هنا أو هناك لأسباب تتعدد بتعدد الظروف الحاكمة والمعطيات القائمة، وغالباً -إن لم يكن دائماً- ما يتم استثمار ما يتحقق في الميدان سياسياً أياً يكن اتجاهه.
هذه البديهية المسلّم بها تحمل معايير مختلفة إذا ما قيست إلى الميدان السوري، وخصوصاً ما تحقق في تدمر وبعدها القريتين، وما سيليهما في وقت لا يبدو بعيداً، حين يُراد لها أن تؤخذ إلى مكان آخر غير الذي تستقر فيه بالعادة، إلى درجة أن هناك من لا يكتفي برفض التعديل والتغيير في المقاربات التي ينتجها الميدان، بل يصرّ على تحييدها عن أي إسقاط يمكن أن يحصل في السياسة، بحيث يكون ناتج الميدان مجرداً من أي إضافات يفرضها الحديث وما يستتبعه.
الأخطر أن تتوقف عقارب التوقيت لدى الكثيرين عند لحظة ما كانت المعطيات الميدانية تتسق مع رؤية تفترض استمرار الحال كما هو رغم أنه من المحال.. وتواصل المثابرة على اعتبارها هي المعيار أو المقياس لتحديد خريطة المواقف بخطوط الطول فيها والعرض، واحتياجات المساحات المطلوبة وفق تلك الفرضية من دون أن تأخذ بالحسبان أن العلاقة الجدلية المطردة تحكمها متغيّرات لا يمكن بالضرورة تجاهلها، ولا تجاوز إسقاطاتها على أرض الواقع.
في المبدأ.. نجد أن الكثير من تلك المعايير المحددة اليوم ليست سوى انعكاس لحالة من الوَهْم الذي فرض حضوره على الكثير من المقاربات التي امتزجت في مرحلة لاحقة ببعض الوعود الكاذبة والمخادعة، وبعضها تعمّد التضليل، بحيث كانت هناك محاولات يائسة لفصل العلاقة من جهة، ولوضع أي خطوة أو تطور في الميدان خارج سياق أي تحوّل في السياسةمن جهة ثانية، وذلك على قاعدة بسيطة، ومفادها أن المسار السياسي الوحيد القابل للنقاش هو ذاك الذي يوصل إلى حيث لم يستطع الإرهاب أن يصل إليه، أو تعويض عمّا فشل الإرهاب في تحقيقه.
المغالطة هنا ليست سياسية بحتة.. ولا هي حكر على ما ابتُليت به تلك المقاربات من أوهام مرافقة وملحقة أو لاحقة، ولا مجرد أمراض ناتجة عن تورّم واستطالات لكثير من الأدوار الإقليمية التي تتساقط كما يتساقط الإرهابيون في المناطق التي يندحرون منها، أو تتقلص تبعاً لمساحة الإرهاب وبالقدر الذي تتقلص فيه، بل تبدو أبعد من ذلك بكثير، حين تصبح ذريعة لتشتيت الجهد الدولي، وبعثرة ما اجتمع بعد طول عناء من خيوط في السياسة، بدليل أن حالة الهلع والخوف التي يتشارك فيها الإرهابيون وداعموهم ومموّلوهم الإقليميون مع المخاوف الغربية كلما هُزمت التنظيمات الإرهابية في مكان، تمثّل قرينة إضافية على أن المسار السياسي المطلوب وفق توصيفات المعارضين ورُعاتهم وداعميهم الغربيين يجب أن يحاكي الظلّ الفعلي لأجندات الإرهاب، والخوف من تقلص مساحة وجود وسيطرة التنظيمات الإرهابية ناتج عن خشيتها من ضيق مساحة المناورة على الجبهة السياسية، وضياع فرص التلويح بالأوراق المرتهنة للإرهاب وأدواته.
لا نعتقد أن أحداً يمكن له أن يجادل في أن السياسة التي تكون في العادة صدى للميدان في مثل هذه المعطيات، هي ذاتها التي تكون عادة أيضاً مخرجاً لاستعصاءات الميدان، وهو أمر أيضاً لا نعتقد أنه يحتمل الجدل، كما أن الميدان في بعض الأحيان يكون حلاً أو تحريكاً للمسار السياسي، عندما يصل إلى بوّابات وأبواب مغلقة، وإلى نقطة يحاول الإرهاب بالأصالة عن نفسه أو عبر وكلائه المعتمدين بتسمياتهم المختلفة أن يكون حاضراً على الطاولة تحت بند البحث عن إطلاق المسار السياسي.
المفاضلة هنا ليست بمعيار المقارنة ولا تدخل في إطار ترتيب الأولويات، فهذه المسألة محسومة منذ زمن بعيد، حيث مكافحة الإرهاب كانت وستبقى أولوية مطلقة لا تقبل التعديل ولا التغيير، لكن المفاضلة قد تكون في سياق البحث عن التأثير والكفّة الراجحة، أو عن العربة التي بمقدورها أن تجرّ خلفها ما تراكم وما استجدّ من أحداث وتطورات، لتكون في نهاية المطاف نقطة الانطلاق الفعلية نحو المسار السياسي، بحكم أن انكفاء الإرهاب إلى حدود الهزيمة لا بد أن ينعكس انكفاءً في أدواته ووكلائه وممثليه إلى حدود الهزيمة أيضاً.. ليسلك المسار السياسي طريقه الطبيعي!!
بقلم: علي قاسم
تابعوا آخر الأخبار السياسية والميدانيـة عبر تطبيق تيلغرام على الهواتف الذكية عبر الرابط :
https://telegram.me/SyrianArabNewsAgency
تابعونا عبر تطبيق واتس أب :
عبر إرسال كلمة اشتراك على الرقم / 0940777186/ بعد تخزينه باسم سانا أو (SANA).
تابعوا صفحتنا على موقع (VK) للتواصل الاجتماعي على الرابط: