بلقاء وفد الحكومة السورية مع ستيفان دي ميستورا مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية يوم أمس، يمكن القول إن مؤتمر جنيف الثالث قد انطلق عملياً رغم تمنع “المعارضة” المصطلح على تسميتها بـ”معارضة الرياض” عن المشاركة ومحاولة فرضها شروطاً مسبقة. ويعبر مشهد انعقاد المؤتمر بمن حضر عن محاولة “المعارضة” الممتنعة الهروب من المواجهة السياسية بعد شعورها بالهزيمة الميدانية، وليقينها أن أياديها باتت خاوية خاصة وأن الراعي الأميركي غدا مسلماً بالواقع، وليس راغباً وربما ليس قادراً على ارتكاب مغامرة أو مجاراة مغامرات غير محسوبة لآخرين ترتد عليه وعلى الوضع في المنطقة انهياراً كبيراً.
وفي توقيت انعقاد المؤتمر، أيضًا يمكن القول إنه يمثل منعطفًا سياسيًّا جديدًا تشهده الأزمة السورية، ذلك أن ظروفه بدت مغايرة تمامًا عن شقيقيه السابقين الأول والثاني، من حيث مصداقية “المعارضة” وما تعلنه من مواقف لا تصب في مصلحة الشعب السوري، وبالتالي حالة الانكشاف التي بدت عليها، والتي أخذت مراحل التحضير والإعداد لهذا المؤتمر إبرازها بصورة متسارعة أمام الشعب السوري خاصة وشعوب المنطقة والعالم أجمع، حيث تفاوتت حالة الانكشاف بين افتضاح الدور الداعم للإرهاب الموجَّه ضد الشعب السوري، وبين الممارسة الفعلية للإرهاب والعنف والتدمير وتقمص دور المنافح والمدافع عن حقوق الشعب والمتحدث باسمه على طريقة “يقتل القتيل ويمشي في جنازته”، وبين حالة الإقصاء والاستفراد والتنافس بإبعاد قوى “معارضة” من التفاوض لها قاعدتها الشعبية على الأرض، وهو ما يعني أن الولاء ليس لسورية الوطن، وإنما تنفيذ أجندات خارجية تسعى إلى تدمير الدولة السورية، ويتم توظيف الأزمة ومعاناة الشعب السوري في تعبيد طريق التدمير. وأمثلة التاريخ على التآمر والكذب وخداع الشعوب وتوظيفها وحقوقها ومآسيها في خدمة مشاريع التدمير كثيرة، فالعراق تم تدميره من مدخل إرادة تحقيق تطلعات الشعب العراقي إلى “تحقيق الديمقراطية وحرية التعبير والحياة الكريمة”، وكيل الاتهامات لحكومته بما فيها العلاقة بتنظيم “القاعدة” الإرهابي، وكذلك الحال في ليبيا بالإضافة إلى كذبة تخليصها من “نظامها الديكتاتوري”، ومن سهَّل عملية التدمير هم الذين نصَّبوا أنفسهم معارضة ومتحدثين عن الشعبين العراقي والليبي، ولكن الارتباط بالخارج كان واضحًا ومكشوفًا في مراحل التمهيد للتدمير ثم التدمير نفسه.
لقد شكل افتضاح ارتباط قوى “معارضة سورية” بالخارج لفرض أجنداته ضربة قاصمة لها من جهة أن الشعب السوري ازداد قناعة بأنه يتعرض لمؤامرة حقيقية، تلعب فيها أطراف محسوبة على الهوية السورية، وتحاول تنصب نفسها عنوة متحدثة ومفاوضة باسمه، وهذا دون شك له انعكاساته ليس في السياسة فحسب، وإنما في الميدان بارتفاع حالة الوعي لدى جميع الشعب السوري بمختلف مكوناته بأن كل التنظيمات التي تحمل السلاح في المدن والقرى والأرياف السورية هي تنظيمات إرهابية، وبالتالي انتهاء ما تبقى من حاضنات شعبية لهذه التنظيمات الإرهابية. الأمر الآخر الذي شكل ضربة قاصمة لـ”معارضة الخارج” يتمثل في التقدم الميداني الهائل واللافت للجيش العربي السوري، وتحقيقه الانتصارات المتوالية والسريعة، وتمكنه من تطهير المدن والأرياف والأحياء في حلب ودرعا وتطهير اللاذقية بصورة كاملة تقريبًا، حيث كان لهذا التقدم الميداني دوره في إعداد القرار الأممي رقم (2254) الذي أكد على تشكيل حكومة وحدة وطنية في ظل الرئاسة السورية وصلاحياتها الدستورية، وإعداد دستور سوري جديد، والذي على هداه يسير مؤتمر جنيف الثالث.
وأمام تفاقم الأوضاع الإنسانية للشعب السوري، وأمام سواطير الإرهاب التي تفعل فعلها في المدنيين السوريين، وتهجيرهم من قبل التنظيمات الإرهابية، فإن لحظة صادقة مع النفس مطلوبة في مثل هذه المواقف والظروف من قبل “المعارضة”، لإنجاح المؤتمر المؤتمر في تحقيق طموحات الشعب السوري وتلبية تطلعاته، وتجنيب سورية ويلات الخراب والدمار، وتطهيرها من دنس الإرهاب، صيانة سيادتها واستقلالها.
نعم، إن مؤتمر جنيف هو فرصة ينبغي عدم التفريط فيها، فهي تمثل مخرجًا للأزمة، وسبيلًا إلى إبعاد المعاناة عن الشعب السوري وتجنيبه وبلاده الإرهاب ومخاطره؛ لذلك فهو أمام لحظة تاريخية تستوجب منه إبداء موقفه الحازم من المنصبين أنفسهم متحدثين ومفاوضين عنه والمرتبطين بالقوى الخارجية الداعمة للإرهاب ضده وضد بلاده. فما هو معروف عن المفاوضات أنها تشمل جدولًا بالقضايا موضوع التفاوض، ويتم مناقشتها وصولًا لحل جامع يرضي الأطراف المتفاوضة، وعدم فرض شروط مسبقة يعني إبداء حسن النيات والرغبة الصادقة والأكيدة في بلورة الحل للأزمة. أما فرض الشروط المسبقة ومحاولة التدثر برداء الإنسانية وتصنع المصداقية والمماطلة والمراوغة، فهذا لا يعني سوى إرادة العرقلة والتعطيل لكسب الوقت لجهة محاولة ارتكاب أعمال إرهابية إضافية علها تعطيه ورقة يمكن أن يصرفها في السياسة.
افتتاحية الوطن العمانية