جال المطبخ السياسي البريطاني على مدى عقود طويلة في أصقاع المعمورة، بل في بعض المراحل التاريخية كاد أن يكون الوحيد الصالح للاستخدام، وكان السبب الخفي والمعلن وراء كل ما شهده العالم، وتحديداً ما يخص المصائب والكوارث، حتى باتت مقولة «فتش عن بريطانيا» تصلح للحديث عن أي كارثة حلت في المنطقة، وينسحب الأمر على ما يدور خارجها، وإن كانت قضاياها هي المحور الفعلي والبوصلة التي حددت امتدادات السياسة العالمية في عقودها الأخيرة.
اليوم .. يبدو أن التراجع الظاهر في موقع المطبخ السياسي البريطاني على الساحة الدولية، ليس أكثر من حركة خادعة لا تعكس الحقيقة، ولا تزال كواليسه تشهد تحضيراً افتراضياً وعملياً لما يشهده العالم، ولا يزال هو الهيكل الذي يرسم منهج السياسة الغربية بما فيها الأميركية، وتحولت الحكومات البريطانية المتعاقبة إلى مورد ومصدر يمكن عبرها قياس ترددات السياسة الأميركية، ولا يزال مشهد رئيس الوزراء البريطاني الأسبق طوني بلير ماثلاً في الأذهان، حين تحول إلى ساعي بريد ومروج للحرب الأميركية على العراق قبل أكثر من عقد من الزمن.
ورغم الاعتقاد الرائج بأن دور السياسة البريطانية قد اكتفى بموقع الظل أو المقاعد الخلفية للسياسة الأميركية، وبات خارج دائرة الصدارة العالمية، فإن الوقائع الخفية وأروقة السياسة البريطانية ومراكز البحوث لا تشي بذلك، بدليل أن الكثير من القرارات الأميركية والسياسات التي اختطتها حيال المنطقة كانت تحمل بصمات المطبخ السياسي البريطاني، ولو لم يكن ظاهرا للعيان أو حاضرا بخصائصه المباشرة، وقد حفلت التطورات العالمية بعشرات من المشاهد الدامغة على الدور البريطاني في لعب المسوق أو ساعي البريد المتفرغ لشرح السياسة الأميركية، والمروج لها، وهناك من يجزم أن الرسم الأولي لا يزال حتى اللحظة، وإن كان بشكل غير معلن، يتم داخل المطبخ البريطاني، ومن ثم يصار إلى تظهيره أميركياً.
بعيداً عن هذا الافتراض، فإن الوقائع تنحو باتجاه الجزم، بأن بريطانيا الاستعمارية وبريطانيا الطامعة في المنطقة وخارج المنطقة، لم تتغير في العقل السياسي البريطاني الراهن وفي ساسته الجدد، وإن بدت تلك الأطماع تتحقق اليوم بأذرع غيرها وتحديداً الأميركية منها، لذلك نجد تلك المغالاة في العودة إلى الغرف من هذا القاع الاستعماري، ولا تتردد في التذكير بذلك التاريخ البغيض، وإن السنوات أو العقود التي أوحت فيها بريطانيا، أنها قد تخلت عن «عظمتها» الاستعمارية وعن «امبراطوريات» أطماعها كانت خادعة بالمطلق ومضللة، على الأقل في سياق ما يحكم العقل السياسي البريطاني، وما يضبط سلوك السياسيين البريطانيين.
الفارق بين ما تضمره بريطانيا، وبين ما يتوهمه ساستها، أن المتغيرات لا تكتفي بنسف قواعد التعاطي فقط، بل تكنس من حساباتها تلك الأطماع التي تستيقظ في جيل من الساسة البريطانيين الذين يتوهون في دهاليز المؤسسة السياسية البريطانية التقليدية، ويبدو الفارق الهائل مدعاة لكثير من التمعن والتدقيق في مساحات العمل السياسي، حيث يغلب على معظمهم الإحساس بالحاجة إلى تدوير الزوايا من وجهة نظر محكومة بالتبعية المطلقة للأميركي، ومن الصعب أن يردموا الهوة الفاصلة بتصريح هنا أو موقف هناك!!.
عقدة النقص لدى جيل الساسة البريطانيين تورمت وتدفع بهذا الجيل إلى الإحساس بالدونية تجاه المؤسسة الأميركية، فيغرق في ملامح عجزه، وهو ما شكل عناوين جاذبة لمرحلة من الطيش السياسي والممارسة المشينة التي تفتقد الحد الأدنى من معايير العمل السياسي، بينما الشعور بالتبعية يدفعه نحو الغوص في القاع الاستعماري وما فيه من تراكمات آسنة، فيأتي من خارج سياق لغة العصر، ويبدو منبوذاً في الشكل والمضمون وعسيراً على الهضم السياسي، ويقدم مقارباته بشكل فج ومتهور، لكنه في نهاية المطاف يرسم محاكاة للتفكير الأميركي، ولكثير من الخطوات أو التصريحات التي ترفض الإدارة الأميركية الغرق في أوحالها، بل توكلها إلى البريطاني، وتشرك الفرنسي حين تقتضي المصلحة ذلك بحكم الإرث الاستعماري المشترك.
«فتش عن بريطانيا»، لم تعد مجرد مقولة تصلح للماضي وما جرته السياسة الاستعمارية البريطانية من ويلات، بل ربما تكون مؤشراً إلى قراءة الدرك الذي وصلت إليه السياسة الغربية والقاع الذي تجول فيه السياسة الأميركية، وخصوصاً أن الكثير من تداعيات اليوم هي من نتاج الماضي الاستعماري، إن لم يكن كلها، وجميعها في سياق الفهم الوظيفي للدور الاستعماري.
المفارقة أن تبعات تلك السياسة لا تقتصر على ما قد يتجسد في اللحظة الراهنة أو التالية بقدر ما تحمل بذور تداعيات مستقبلية وويلات دمار وكوارث خراب على المنطقة وبؤر صراعات ونزاعات كامنة قابلة للاشتعال حين تقتضي المصالح الاستعمارية والغربية ذلك، وفي سايكس بيكو ما يكفي للاستدلال، بينما بؤر النزاع الثنائي التي زرعتها خرائط الاستعمار البريطاني في المنطقة قرينة إضافية، وتلك ليست سوى وجه واحد من وجوه كثيرة، تعتلي دهاليز السياسة البريطانية بنسختها الاستعمارية المستيقظة في الوقت بدل من الضائع..!!
بقلم: علي قاسم