في ثقافة الخطاب والمخاطب-صحيفة البعث

لكل خطاب هدف، أو جملة أهداف، ورسالة أو عدة رسائل، بعضها واضح المعالم، وبعضها الآخر يقع ضمن دائرة القراءات والتحليل والنتائج، وإذا كانت خطب وكلمات السيد الرئيس بشار الأسد تتميّز بالوضوح والشفافية، ما يجعل التعامل مع مفرداتها ومضامينها مسألة غير معقدة، يصبح المهم والجوهري هو: كيف نحوّل هذه الخطب والكلمات إلى ممارسة وسلوك، ونفعّل مضامينها، ونتفاعل معها على المستوى الفردي والمؤسساتي، ما يكسبها دينامية عالية ومفاعيل عملية وواقعية، ذات نتائج ملموسة يستشعرها الجميع.

إن الخطاب -أي خطاب- هو بالنتيجة جملة رؤى وتصورات ومفاهيم ومعانٍ ورسائل، تستهدف جمهوراً معيناً ومؤسسات بذاتها، ولعل أبرز معالم نجاح الخطاب هو وضوح لغته ومفرداته وأهدافه وغاياته، وقدرته على تشخيص وتوصيف الحالة أو الحالات والقضايا التي يتناولها، وملامسته لمشاعر الناس وحاجاتهم، وإجابته عن تساؤلاتهم وهمومهم، وقدرته على بث روح إيجابية تفاؤلية في نفوس متلقيه، والأهم من ذلك اقترانه بالمواقف والسلوكيات المطلوبة، وامتلاكه خاصية التطبيق العملي، بالقياس للمواقف والاستجابة المطلوبة، تلك الاستجابة الإبداعية المتفاعلة مع مضامينه، لا تلك الوظيفية الطابع. من هنا تأتي أهمية تسليط الضوء على خطاب الرئيس الأسد في لقائه مع قيادات المنظمات الشعبية والنقابات المهنية وقوى المجتمع المدني والأهلي، على تعددها وتنوّعها ومساحة توزعها في الجسم الوطني السوري.

إن أهم ما يجب تحديده والوقوف عنده في إطار مقاربة الخطاب، هو آلية التعاطي والتفاعل معه من قبل الجمهور السوري، سواء كان ذلك في إطار التحليل والشرح أو في المضامين، وهنا تبرز مسألة الثقافة السائدة في هذا المجال. لقد جرت العادة أن يتلو الخطاب عملية تحليل له، ينبري لها العديد من المحللين والسياسيين، وغيرهم من ذوي الشأن، تتوزع بين مستويين: هي عند البعض عملية ميكانيكية تعيد تكرار ما ورد في الخطاب، أو الإشادة به، وعند البعض الآخر عملية لها مرتكزات وعناصر تحليل، تتكئ إلى مخزون ثقافي وسياسي، وإحاطة عميقة بالمضامين والأهداف والرسائل والمحتوى، قد تصيب الهدف أو تصل للرسائل المراد إيصالها لمن يعنيهم الأمر، وفي كل الأحوال يبدو الأكثر أهمية من كل ذلك هو كيف لنا أن ننتقل من تحليل الخطاب إلى تركيبه، أي تحويل مفرداته ومضامينه إلى مقاطع عمل وسلوكيات قابلة للقياس والتحقق، إضافة إلى مواقف عملية تعطي مؤشرات حقيقية على تحوّل أو تطوّر في الرأي العام المحلي أو المستهدف، بناء على مفردات الخطاب ومضامينه، وبمعنى أدق قياس وضبط المفاعيل المعنوية للخطاب في الوسط الجماهيري وقدرته على إحداث التغيير أو الاستجابة المطلوبة.

إن أهمية ونجاح الخطاب في الوصول إلى أهدافه لا تحكمها أو تقيسها حالة التصفيق والهتاف التي ترافقه، أو الحماس الذي يدب في نفوس الجمهور المخاطب-على أهمية ذلك- بقدر ما تحكمها حالة التفاعل العملي والخلاق للجمهور والمؤسسات المستهدفة مع مضامينه وغاياته، فالحماس للخطاب لا يكفي، وإنما التفاعل الإبداعي اللا نمطي مع مقتضياته وحيثياته، وهنا يبرز دور المؤسسات والمنظمات والنقابات والقوى السياسية والمجتمعية والإعلامية، وكافة المنابر الوطنية، وكل حسب اختصاصه ومسؤولياته ومهامه، في التعامل الإيجابي مع مضامينه، من خلال التأثير في الأوساط التي تقع تحت دائرة اختصاصها ووظيفتها أو تمثيلها النقابي والمنظماتي والأهلي لتبثه روح عمل وإنجازاً ومواقف، تحوّله الى كائن حي عملي “سلوكي” أو معنوي، ما يجعل منه وقوداً وطنياً حقيقياً فاعلاً ومؤثراً على كامل الجغرافيا الوطنية.

إن تلك الأهداف لا يمكن أن تتحقق بالشكل المطلوب، إلّا من خلال عدة مسائل، يأتي في مقدّمتها وعي الممارس للخطاب أو الأفكار التي يتضمنها، وامتلاك المقدرة والإرادة على تمثّلها، والإيمان العميق بجدواها وفاعليتها، والاستعداد العالي للتعاطي معها بروح إبداعية لا نمطية أو وظيفية، والأهم من ذلك أن تمارس المفاصل القيادية، على كافة المستويات، سلوكاً عملياً متماهياً مع مفرداته وروحه وأخلاقياته، أي تمثّله حقيقة لا ادعاء، وهذا التمثّل لا يقتصر على طقس احتفالي شكلي بقدر ما هو حالة سلوكية، فيها من التضحية والعطاء وإنكار الذات ما يشكل الانطباع الجماعي في الانسجام والتناغم والتفاعل معه.

إن الحديث عن البعد العملي والسلوكي للخطاب لا يلغي أهمية ومحورية الجانب التعبوي في حيثياته، والمساحة الوجدانية الماثلة في جوانب هامة من القضايا الوطنية التي تناولها، ما يعني أن المفاعيل المعنوية للخطاب لا تقل في أهميتها عن الجوانب العملية والسلوكية، فالخطاب في جوهره هو رافعة معنوية ووطنية وأخلاقية للجماعة السياسية السورية، وهي تواجه أكبر خطر يتهدد البلاد، تصدى له الشعب السوري، وعلى رأسه سيادة الرئيس بشار الأسد، بكل شجاعة وإقدام وإيمان، وتجسّدت تلك الشجاعة بأبطال قواتنا المسلحة الباسلة والمقاومة الشعبية، متسيّجة بالوطنية السورية، والتي كانت في أحسن حالاتها، مسطّرة ومجسّدة ملحمة سورية الملامح والهوية.

بقلم: خلف المفتاح

انظر ايضاً

وزير العدل يلتقي وفداً من المحامين الأتراك بدمشق

دمشق-سانا التقى وزير العدل القاضي شادي الويسي وفداً تركياً رفيع المستوى من محامين ووكلاء محامين …