أدرجت فيينا في يومياتها الطويلة أن عصر إيران النووي بدأ، بعد أشهر ماراثونية، لتسجل مفاوضات «القرن» في دفاتر المشهد الدولي صفحات سيكون ما بين أسطرها أعمق تأثيراً مما طفا على سطح عناوينها، وإن اقتضت أن تتفرد الدبلوماسية بتفاصيلها التي برهنت أنها تصلح لتكون بديلاً منطقياً للغة الحرب والتهويل والتهديد، ولو اشترطت توفر الإرادة والجدية.
فالمشهد لم يكن بحاجة إلى تطويع ليتناسب مع الضخ الإعلامي والسياسي على جبهات التلاقي والتنافر التي استطاعت أن تجمع تلقائياً الجبهات والخنادق وما تمترس معها أو ضدها على مدى أشهر المفاوضات، فيما كانت إسرائيل والسعودية مع مرتزقتها خارج سياق الاصطفاف العالمي المؤيد والمرحب بما جرى وما يفتحه على المنطقة والعالم من متغيرات جوهرية.
بهذا المعنى لم يعد الاتفاق مجرد نجاح في إيصال المفاوضات إلى حيث يرغب المجتمع الدولي أن تصل، وإلى حيث تبدو فيها الأطراف المختلفة قد ارتضت حصتها من كعكة الاتفاق ، بقدر ما أثبت أن المفاوضات والحلول السياسية التي استطاعت أن تحقق هذا الخرق في معضلة بدت مستعصية على الحل قادرة على البتّ في أي معضلة أو مشكلة تعترض العالم، وتفند بشكل نهائي حجج وذرائع أصحاب نظرية العسكرة وما يدّعونه من خيارات، عندما يتعمدون إيصال الأمور إلى طريق مغلق من أجل الاستنجاد بخيار الحرب.
ولم يكن الأمر بحاجة لكثير من الشرح والتفصيل، حين بدت المقاربات متفقة على نسق واحد باستثناء إسرائيل والسعودية والمتشددين في الكونغرس الذين حاولوا أن يقدموا صورة مغايرة لم تخلُ من التهديد والوعيد والابتزاز والتحريض، وكل في موقعه ودوره رغم الفارق في التـأثير على مجريات الأحداث، حيث إن النفخ في القربة المثقوبة حول الخطر الإيراني المزعوم بات وراء الأحداث.
ما يجري تداوله اليوم لا يتعلق بسياق ما نتج من انطباعات أولية عن الاتفاق، وعن القراءات المتعددة التي استدرجت مذاهب واتجاهات عدة، بقدر ما يتعلق بالفضاءات السياسية الوليدة على خلفية الاتفاق، والحديث عن عالم جديد ليس بمعيار الاتفاق وما يقدمه، وإنما بما تم التمهيد له مسبقاً من اتفاقات، وظهور تكتلات سياسية واقتصادية تزاحم القطبية الأميركية وتنافس الاستفراد الغربي بالمشهد الدولي، حيث إيران القادمة إلى المسرح السياسي من بوابة الاتفاق، ستكون غير تلك المحاصرة بالعقوبات والتحريض والحجج والذرائع.
وهذا ما يفتح الباب على مصراعيه حول المشهد الإقليمي وما يمكن أن تحدده المفاهيم الناتجة عن الاتفاق، سواء ما تعلق باكتساح الدبلوماسية للمشهد السياسي في العلاقات الدولية، أم بالدور الإيراني المتصاعد والإيجابي حيال تلك القضايا التي ستكون ورقة قوة إضافية لمصلحة شعوب المنطقة ودولها، بحيث تنحسر أدوار إقليمية استطالت نتيجة تغييب متعمد وقسري لدور إيران وتشريع لأدوار أخرى يمكن لإيران أن تساهم ببلورتها، وملء الفراغ الحاصل وتقلص تورمات مرضية لكثير من الدول الوظيفية في المنطقة، إذ تبدو أي مقاربة نوعاً من التنجيم السياسي حين لا تقترن بالوقائع على الأرض، وما يستتبعها من ارتدادات موازية على المستوى الإقليمي والدولي.
فالسياسة اليوم مضطرة للأخذ بأن مفاوضات القرن -إن صحت التسمية- أملت شروطها وفرضت معايير لـ «حوار» القرن، وأنجزت اتفاقاً يصلح ليكون نقطة تحول حقيقية وانعطافة.. ما بعدها ليس كما كان قبلها، وأن إيران التي كانت في خانة الاتهام السياسي المسبق باتت لاعباً مؤثراً وأساسياً لا يمكن تجاهله، والمبررات والمسوغات والذرائع التي كانت تسوّق استبعاده باتت من الماضي، ما يحتم تغييراً دراماتيكيا في الموازين السياسية والاستراتيجية للمنطقة والعالم، وإن كان العامل الذاتي والموضعي في كل قضية هو المعيار وهو الميزان في نهاية المطاف.
إيران لا تدخل النادي النووي من باب الشرعية التي فرضها الاتفاق فحسب، بل تدخل ايضا نادي السياسة الدولية من بوابة موقعها ودورها وحضورها وقوة تأثيرها في الإقليم كدولة لها مفاعيلها على سائر علاقاته مع المجتمع الدولي، ما يرجّح كفة العقلاء في المشهد الدولي وكفة الباحثين عن حلول جدية لمشكلات المنطقة، والأهم أنه يضيف ثقلاً نوعياً لأي تحالف أو تفاهم أو تنسيق جاد وصادق في مواجهة الإرهاب.
بقلم: علي قاسم