دمشق-سانا
يعرف الباحث الموسيقي وضاح رجب الباشا الموسيقا بأنها علم أولا وفن ثانيا.. فهي علم يصل بالإنسان إلى الرقي الأخلاقي والاجتماعي وهي غذاء روحي يشذب النفس البشرية ويشفيها من أمراضها.. وهي تجمع بين فيزياء الصوت ميكانيكيا ومهارات العزف “التكنيك” وفي الوقت نفسه تلامس المشاعر الإنسانية بواسطة حاسة السمع.
وفي حديث خاص لسانا الثقافية وصف الموسيقا الشرقية بأنها تلامس أوتار القلب من خلال جملة لحنية بسيطة في تركيبها غنية بمكوناتها مترابطة في تتابعها وان كانت لا تعتمد كثيرا على التكنيك العالي والسرعة في العزف إلا أنها تدخل القلوب بسرعة وهي ذات جمل ممدودة .. وحتى عند استعمال الإيقاعات الراقصة والسريعة فان تخفيض سرعة الإيقاع يجعلها تتلاءم مع الجملة الشرقية الانسيابية.
ولكونه نشأ في بيت يعشق الموسيقا في خمسينيات القرن الماضي أيام الفونوغراف والاسطوانات الغنائية السوداء واولع بالفن بتشجيع من والده الذي كان يهوى الغناء وعزف العود والكمان ويقيم السهرات الفنية في منزل العائلة كل خميس بوجود الأقارب والجيران والأصدقاء فقد بقي مسكونا بهاجس الخوف على الموسيقا الشرقية من أي خطر يتهددها.
وسبب خوفه يعود الى طغيان السلم الغربي المعدل لدرجة يفقد موسيقانا الشرقية هويتها فدخول آلة الأورغ إلى الأوركسترا العربية بمساحتها المحدودة خرب الموسيقا الشرقية وأفقدها قاعدة استناد رئيسية فمقام الرصد من درجة دو مثلا فيه درجة اسمها مينص بيمول وهي التي تعطي نكهة السلطنة في الموسيقا الشرقية وهذه لا نجدها في الأورغ والغيتار لأنها آلات غير كاملة.
ويرى الباشا المولود في حلب 1952 أننا نعيش في عالم عشوائي موسيقيا وندفع ثمن ضعفنا وتبعيتنا للغرب بسبب تخلفنا العلمي فقد كان من الممكن إجراء تعديلات على آلة الأورغ وجعلها تؤدي ما تتطلبه الموسيقا الشرقية منها مشيرا الى أن اقبال الشباب على تعلم الموسيقا الغربية سببه سهولة تعلمها مقارنة مع تعلم الموسيقا الشرقية التي تعتمد على الأجزاء والتفاصيل الدقيقة فالسلم الشرقي مبني على أساس الكوما أو الجزء ويعتمد على حساسية الأذن والهارموني أما الغربي فمبني على أساس البعد ونصف البعد ويعتمد في تصنيفه على مسافات متساوية وثابتة ولايكتشف الفرق بينهما سوى من كان متبحرا في علم الموسيقا.
وينبه الباحث الباشا الى ضرورة تربية الأذن عند الطفل منذ الصغر على تذوق الموسيقا الشرقية وسماعها لمدة ساعة يوميا على الأقل وهنا تختلف حساسية الأذن بين إنسان وآخر تبعا للعمر والتربية منذ الصغر.
وعن علاقته بالآلات التي يعزف عليها وهي العود والأورغ والكمان والغيتار قال إنها علاقة حميمية مبنية على الحب تصل إلى مرحلة التوحد مع الآلة تغنيه عن الأكل والشرب ويكفي أن نلاحظ كيف يحضن العازف عوده كما يحضن العاشق حبيبته لكي نعرف مدى هذه العلاقة.. مؤكدا ضرورة ان نعيد للعود ألقه وجماليته كآلة شرقية بحتة وكآلة كاملة نستطيع أن نعزف عليها أي مقام من أي وتر.
وأوضح أن اهتمام الدارسين بالآلات الغربية وعزوفهم عن الآلات الشرقية بدا عندما أوفد الخديوي اسماعيل عددا من الطلاب إلى فرنسا لدراسة الموسيقا فاعتبروا لدى عودتهم أن كل ما هو غربي هو فن راق مع ازدراء الفن الموسيقي الشرقي ما أدى الى نشوء صراع آنذاك بين الموسيقيين العائدين من أوروبا وبين الموسيقيين الذين لم يغادروا مصر.
ويعتبر الباشا مرحلة البحث العلمي مرحلة متقدمة في مجال الموسيقا فهو يعزف منذ خمسين عاما ولكنه لم يتوقف عند مرحلة العزف فعلى الباحث أن يدرس الموسيقا كعلم وأن يكون دارسا لاختصاص علمي قريب من الموسيقا كالهندسة مثلا لكون الموسيقا علم مبني على علم الرياضيات وهذا مانجده في كتاب لمجدي العقيلي بعنوان “السماع عند العرب” المليء بالأرقام والقوانين الرياضية كقانون الاهتزاز ونسبة التواتر.
وقد ساعدته دراسته للهندسة الالكترونية وفيزياء الصوت في فهم خاصية الصوت من حيث الطبقة والمساحة الصوتية والعرب وطبيعة الصوت والحنجرة والأجهزة المسؤولة عن إخراج الصوت ابتداء من الحجاب الحاجز وانتهاء بالشفتين كما أن عمله لمدة ثلاثين عاما في مخبر يحوي عددا كبيرا من الأجهزة الالكترونية جعله يدرس أدق خصائص الصوت من خلال مولدات التردد الصوتية وقياسها بواسطة مقاييس التردد والراسمة فكان يراقب الصوت سمعا وبصرا وهذا ما شجعه لدخول مجال البحث العلمي الموسيقي ووضع دراسات في هذا المجال.
وعمل الباحث الباشا على تأليف كتاب شامل بعنوان “المقامات الموسيقية الشرقية العربية” يضم كل المقامات الشرقية التي حدد عددها مؤتمر الموسيقا الشرقي الأول بخمسة وتسعين مقاما من سورية ومصر والعراق ولبنان وعمان وتونس في محاولة لتوحيد المقامات العربية بعد أن درس مقامات كل دولة وأجرى عملية توحيد لها مضيفا عليها نظرية جديدة في الموسيقا حول الفرق بين المقام الرئيسي والمقام الفرعي مشيرا الى أنه لدى تطبيق هذه النظرية على كل المقامات كانت النتيجة صحيحة مئة بالمئة.
ويعكف الباشا حاليا على تأليف كتاب عن الموسيقار محمد عبد الوهاب بدأ بجمع مصادره منذ عشرين عاما حتى جمع تراثه كاملا وحفظه على حاسبه الخاص بعد تدقيقه وفحصه وتنقيحه بالكامل بعد اتباعه لدورة على برنامج خاص بتنقيح الملفات الصوتية ينظف ويصحح الاسطوانات القديمة اضافة الى اقتناء مئات الكتب والمجلات التي تتحدث عن الموسيقار الراحل.
وعن سبب اختياره للفنان عبد الوهاب قال إن أغانيه رافقت طفولته فعرف قيمته كمبدع ما جعله يركز عليه ويتتبع اثره فما ان يسمع ان فلانا يمتلك اغنية نادرة لعبد الوهاب حتى يذهب إليه ويشتريها منه ولو كان في آخر الدنيا حتى اقتنى تراثه كاملا من أغنيات ونوتات وهو الآن بحاجة الى شخص ينوت له الأغاني ثم سيضمن كتابه دراسة فنية لكل أغنية حول استخدام المقامات والنقلات البارعة وتكرار بعض الكلمات وكيفية فهمه للجملة الشعرية ومطابقة اللحن لبيت الشعر متوقعا أن يستغرق تأليف الكتاب مدة عام ونصف العام على الأقل وأن يقع في ألف ومئتي صفحة.
ولفت إلى أن شبكة الانترنت ساعدته كثيرا في عمله البحثي ومعرفة النتاج الموسيقي العربي مختصرة له الوقت والمسافات بضغطة زر بعد أن كان يقطع مئات وآلاف الكيلو مترات للحصول على تسجيل نادر أو كتاب أو أي معلومة تتعلق بالبحث الموسيقي.
ووصف الباشا تجربته مع المركز الثقافي العربي بأنها ناجحة حيث يستمر منذ عام ونصف العام في تقديم موسيقا الزمن الجميل بشكل دوري فيقدم في كل حلقة دراسة عن مطرب أو مطربة أو مقام مشيرا الى أن الإقبال ممتاز ومعظم الحضور من الأطباء والمهندسين لكنه يتمنى جذب فئة الشباب لتوصيل رسالته إلى الأجيال الجديدة وهذا ما عمله في فرقة الكورال التي أسسها مؤخرا.
وعبر تدريس الموسيقا في معهد الثقافة الشعبية بدمشق قام الفنان الباشا بتأسيس فرقة كورال أسماها جوقة ست الشام للتراث بهدف إحياء أصول الموسيقا العربية من موشحات وأدوار وطقاطيق ومونولوجات منتقاة وقد وضع توزيعا بسيطا لها مع الكورال والأوركسترا حافظ فيها على اللحن الشرقي الأصيل ولفت نظر الجيل الشاب من خلال التوزيع والفرقة مكونة من تسع فتيات وعشرة شباب يدربهم على الموشحات بتوزيع جديد يتناسب مع أعمارهم متوقعا أن يقدموا أول حفل لهم بعد ستة أشهر ويطمح أن تكبر الفرقة لتصبح معروفة على مستوى الوطن العربي لكي يعرف الجميع أن في سورية موسيقا رائعة وموسيقيين موهوبين.
ويأسف الباشا لكون الموسيقا ابتعدت في زمننا الحاضر عن هدفها السامي في إعادة توازن النفس البشرية وإمتاعها وامتصاص همومها والسمو بالإنسان واتجهت نحو إظهار الغرائز وخاصة بوجود الأغنية المصورة أو ما يسمى الفيديو كليب فأصبحت الجملة الموسيقية هشة مكررة لا معنى حقيقيا لها في التطريب أو تذوق اللحن .. معتبرا أن كثرة المعاهد الموسيقية وقلة المبدعين حولت العازف الموسيقي الى عبارة عن آلة تنفذ ما يطلب منها دون إحساس.
وعزا سبب تراجع الموسيقا إلى خضوع اللجان الموسيقية والقائمين على اختيار الألحان والأصوات للمحسوبيات والأوامر العليا والصداقات والإغراءات المادية والمعنوية بالاضافة الى نشوء قنوات تلفزيونية مؤخرا لها سياسة عدائية تجاه تراثنا الفني وتدميره من خلال برامج مسابقات ربحية تمضغ الماضي الجميل ولا تؤسس للحاضر بل تعتمد اعتمادا كليا على الموسيقا الالكترونية.
ويملك رجب الباشا مكتبة موسيقية قل نظيرها في المنطقة من حيث الكم والجودة والندرة فلديه مثلا المجموعات الكاملة لأغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفيروز ونجاة ووردة وكارم محمود وفريد الأطرش وأسمهان وميادة حناوي وغيرهم بالإضافة إلى المجموعة الكاملة لقراء القرآن الكريم في المساجد أو تسجيلات الاستوديو وختم القرآن للقراء الجدد.
سلوى صالح