تهب رياح الحديث عن التقسيم في المنطقة، وتحمل معها غبار المعارك المفتعلة، أو تلك الـمُصنَّعة على مقاس حاجة المشاريع المتحركة، وفق رغبة الأطماع الغربية، وكأن سايكس بيكو بات أفضل حالاً مما تخيلته الأجيال العربية، التي قضت حياتها في محاربة مرتسماته وذيوله وظلاله على الأرض العربية.
ويبدو أن أجيالاً أخرى من العرب ستفني حياتها في مواجهة صراع التقسيم، الذي لن يكتفي بخرائط سايكس بيكو الاحتياطية أو المودعة في الأدراج لحين الحاجة، لتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، بل سيستميت في محاولة فرض إحداثيات وخرائطَ تعيد ترتيب المنطقة وعلاقتها بالعالم وفق معيار الحسابات الغربية، بحيث لا تكتفي إسرائيل حينها بأن تكون فقط الأكبر في محيط مقسم تتنازعه الخلافات والتناقضات العرقية والمذهبية والطائفية، بل أيضاً ركيزة الاستقطاب في المنطقة، والمحرك لاتجاهاتها والمحدد لبوصلة انتماءاتها وخياراتها.
التقسيم لم يعد مجرد ورقة تُلوّح بها قوى وأطراف إقليمية أو دولية، وليس مجرد استنتاج أو قراءة في وثائق مسربة عمداً أو من دون قصد، بل ببساطة.. بات في اليمن مطلباً لقوى يمنية أخذتها الحمية السعودية لتتحالف مع القاعدة والوهابية، وفي العراق أضحى موضع مشروع أميركي معلن، بعد أن أضمرته النيات والممارسات لأكثر من عقد من الزمن، وليبيا تحت وطأة التقسيم بحكم الأمر الواقع وسورية تتعرض لأشرس حملة عرفتها البشرية في تاريخها الحديث، لانتزاع مسوغات يمكن لها أن تفتح الباب ولو بالكلام عن التقسيم، ومصر ليست ببعيدة عن المخطط وقد لاح في سماء سيناء ما يماثل أو ما ينطبق عليه التقسيم، وجارتها السودان تنشغل في جنوب الجنوب وشمال الشمال وربما في غرب الشمال وشرقه، والحبل على الجرار ..!!
على الضفة الموازية او المقابلة وربما المناقضة، لا تبدو المعطيات خارج سياق التداول المعلن أيضاً، ولكنها بصيغة ما قد تحتاج إلى إعادة توضيب لتكون القوى الرافضة لتلك المشاريع أكثر حضوراً على ساحة التبارز الإعلامي ومسرح المواجهة السياسية، خصوصاً أن أغلبها إن لم يكن جميعها يتعرض لحالة من الإشغال المتعمد عبر الاستهداف الذي اضطرها لتكون في موقع الدفاع على مدى السنوات الخمس الماضية، وبعضها مأخوذ بتدحرج الأحداث أو هو خارج الضوء المباشر، ما يقتضي بالضرورة المسارعة إلى المكاشفة الذاتية والموضوعية، لهذه القوى ومرتسماتها على الخارطة الشعبية.
وفق هذا المنحى نحن أمام مقاربة تستدعي إعادة النظر ليس في الرفض لتلك المشاريع- وهو تحصيل حاصل- بقدر ما تتطلب العمل الجاد على بلورة صيغ عمل تقاوم تلك المشاريع وتفضح صيغها وتطرح بدائلها، فالصراع على الخرائط لم يعد سراً، والنتيجة المحسومة أن المنتصر في نهاية المطاف هو الذي سيحدد مسار تلك الخرائط، ما يتيح الفرصة امام محاكاة الواقع من منظور الدور المؤجل للطرح السياسي الشعبي، ومؤسساته ومنظماته وقواه الحية، بكل ما يمليه من محددات فعلية.
لسنا بوارد المقارنة لكن ما تقتضيه المواجهة أبعد بكثير مما هو متداول، بما تعنيه من مباشرة في تجاوز صيغ المحظورات التي تنتمي إلى حقب سابقة والتي كانت تحول دون الحديث العلني بالأسماء والمسميات والأدوار، وما تقتضيه من ضرورة الانطلاق من مرحلة الدفاع السلبي إلى المواجهة الإيجابية، حيث الحياد أو الصمت أو التريث والتردد يبدو مواربة غير مشروعة وتدحرجاً غير مقبول إلى الخندق الآخر.
عند هذه النقطة تبدو المنطقة أمام المواجهة المحسومة، والتخندق العلني لم يعد حالة قائمة فحسب، بل بات أمراً ملحاً ومشروعاً ومطلوباً وحالة تستبق ما هو آت، وما نقوله اليوم ليس توصيفاً لما جرى وما يجري بل لما هو قادم، ما يحتم طرح الأسئلة الصعبة المؤجلة والأصعب منها، كي لا نقول يوماً: هنا كانت خرائط سايكس بيكو وهناك باتت خرائط الوهابية والقاعدة، وداعش وحدود المصالح والأطماع ، وخنادق الحروب بالوكالة أو لحساب الآخر.
فالمعضلة ليست في خرائط التقسيم المعلنة بقدر ما هي في تلك المضمرة، ولا هي في المشاريع المتداولة بقدر ما هي في تلك التي يعاد رسمها ميدانياً وسياسياً وإعلامياً، وبعضها استباقي في إحداثياته وبعضها الآخر معد وينتظر إظهاره، والقادم ليس في معركة هنا أو جبهة هناك، بل في الحرب الإرهابية المعلنة على الآخر وفي مقدمتهم العرب بوجودهم ودولهم وشعوبهم ومن يقف إلى جانبهم، لكن دون أن ينسى أحد أنه في لعبة الدومينو لا مكان للحدود الوسط ولا لأنصاف الحلول والمشاريع، وليس بمقدور قوة في العالم أن تضبطها في جغرافية المنطقة أو أن تكتفي بهاعلى التخوم الجانبية المحيطة بها.. وذلك قد يكون فارقاً بين عبثية المعلن وكارثية المضمر.
بقلم: علي قاسم