ارتقى الحديث عن السوق والأسعار إلى مستوى حساسية من شأنها أن تتيح تصنيفه في القائمة المخصصة لإدراج الأولويات ذات البعد الوطني، ولم يعد من ترفٍ مفتعل في تناول يوميات السوق والأسعار، مع التسليم بالقدر العالي من الخصوصية التي فرضتها ظروف حرب قاسية قذفت بجحافل الارتزاق والتخريب من أربع جهات الدنيا، على بلد صامد في زمنٍ قضت الأعراف المنحرفة فيه بأن يكون الدفاع عن السيادة الوطنية ارتكاباً !.
إلّا أن مواجهة العابثين بالسوق و”حيتان” ابتلاع مستلزمات البقاء، لا تقل حتميةً وإلحاحاً عن مواجهة العابثين بأمن الوطن ومستهدفي سيادته ووحدة أراضيه، لذا دعونا نضع النقاط على الحروف، لأن المرحلة وما آلت إليها الحال لم تعد تحتمل المجاملات بتاتاً.
وفي رحلة وضع النقاط على الحروف لا بد من اعترافات، قد يكون محورها أن الدولار بات شماعة وذريعة لـ “إشعال” أسواق مستهلك باحث عن مقوّمات الصمود و”وقود المواجهة” فجاءته الصفعات القاسية من أكفٍّ سوداء اتخذت من “العملة الخضراء” غطاءً يستر أقذر أنواع وأشكال الممارسات التي يتخفى لاعبوها بهيئة تجار ادعوا التضحية وكسر جدران الحصار، فكانت تضحياتهم استحكاماً، وانفراجاتهم أزمة، واستثماراتهم وبالاً على الوطن والمواطن!.
ورغم قناعتنا بأنه لا يوجد شيء أمريكي في هذا الكون مظلوم، بل ظالم، وبالأدلة والبراهين، إلّا أن ذلك الشيء الذي اسمه “دولار” يبدو مظلوماً في أسواقنا اليوم، ومتهماً بريئاً نسبياً مما نُسب إليه من ارتكابات لفحت يوميات كل مواطن، وربما تكون “جذوة الانفعال” قد أخذتنا جميعاً إلى ما يشبه حالة الهيجان في وجه “الدولار اللعين” لنكون قد حوّلنا الانتباه غافلين غير قاصدين عمّن استمرؤوا عائدات التجارة بالأوجاع والجياع، وعن مكنة الرقابة المعطلة التي ملأت آفاقنا ضجيجاً و”استحلت” إيماءات الاستعراض الأجوف بسيوفٍ من خشب!.
أي دولارٍ ساحرٍ هذا الذي يرتفع ستة أضعاف فترتفع أسعار السلع بين العشرة والعشرين ضعفاً؟، وأي دولار أسطوري قادر على اقتحام منظومتنا الإنتاجية الذاتية الخالصة، ويقذف بأسعارها عشرة أمثال نحو الأعلى، ليكسر يقيناً طالما تغنينا به معلنين أننا عصيون على التجويع لأننا نأكل مما نزرع، فجوّعَنا تجارنا بالنيابة عمّن حاولوا وعجزوا عن ذلك لعقود وعقود.. وأوصياء الرقابة يبحثون عن مفردات لمواساة المواطن وربما سيوزعون المناديل لكفكفة دموعه؟!.
لن نستحضر الأمثلة ونسرد المفارقات الصاعقة التي أحدثها ارتفاع الدولار في الأيام الأخيرة بواقع 10بالمئة أمام الليرة السورية، فارتفعت أسعار بعض السلع 350 بالمئة، ولأننا لسنا في وارد إخبار من لديه خبر، مواطناً كان أو مسؤولاً تنفيذياً يتجاهل الوقائع، سنقترح ما يمكن قوله بما “قلّ ودلّ”: من الملحّ وبدون تلكّؤ إصدار قانون التموين والجودة وإعادة الصلاحيات لوزارة التجارة الداخلية “مقلّمة الأظافر”، والعودة إلى نظام التسعير المركزي اليومي وفقاً لتحركات سعر الصرف ارتفاعاً وانخفاضاً أيضاً.
وبما أن الأزمة تستوجب إجراءات أزمة، من المهم إحالة القضايا التموينية إلى القضاء العسكري، والعودة إلى توقيف المرتكبين بحاشية “حتى إشعار آخر”، كما كانت تُدار السوق في ثمانينيات الحصار الاقتصادي، التي لم ننسَ مرارتها رغم مرارة الحرب الراهنة.
وننتظر من الحكومة المسارعة إلى اتخاذ قرار يمنع تمويل استيراد سلع “الترف الاستهلاكي” لأنه يستنزف القطع الأجنبي على حساب تمويل استيراد السلع والمستلزمات الأساسية، ويحدث خللاً في معادلة العرض والطلب، فيدفع الفقراء ثمن رفاهية تبدو نشازاً حيث لا بد من التماهي مع متطلبات مواجهة أزمة.
وكي لا نُتهم بأننا نحابي الدولار واللاعبين في مضماره، نعتقد أن تعليق عمل شركات ومكاتب الصرافة بات خياراً لازماً، ليتولى مصرف سورية المركزي والمصارف الحكومية صاحبة الاختصاص إدارة موجودات البلاد من العملات الصعبة. وليعذرنا كل من جافينا مصالحه في طرحنا، لأننا في أزمة لم ترحمنا وعلينا ألّا ندّخر حلولاً جراحية في مطارح لم يعد ينفع معها التداوي بالمسكنات.
بقلم: ناظم عيد