حمص-سانا
تختزن الحجارة واللقى الأثرية على وجوهها وفي ثناياها حضارات امم تركت تاريخا عريقا وبصمات شعوب لا تزال تشكل لغزاً لعلماء الآثار والابيغرافيا الذين يواصلون البحث عن حل لهذا اللغز علهم يضيئون حقبة زمنية مهمة تفتح الآفاق للأجيال القادمة للتعرف على حضارة أجدادهم والاستفادة منها.
ومن هؤلاء العلماء المهندس ملاتيوس جغنون الذي استهواه هذا العلم فبرع فيه وكان له الفضل في فك كثير من الكتابات الأثرية وخاصة في مدينة حمص القديمة.
وأوضح جغنون في حديث لسانا الثقافية بحمص.. أن خوضه في هذا الحقل المعرفي التخصصي بدأ منذ أكثر من ثلاثين عاماً حين زار مدينة تدمر الأثرية لأول مرة وجال بين أوابدها الرائعة فاستوقفته ظاهرة لافتة وهي كثرة النقوش الكتابية الأثرية باللغتين التدمرية واليونانية على ابدان أعمدتها وعلى القنصليات البارزة على هذه الأعمدة التي كانت تحمل تماثيل لأشخاص مكرمين.
وأضاف جغنون الذي يشغل حالياً منصب رئيس جمعية العاديات التاريخية الأثرية في حمص.. أنه أي قبل ثلاثين عاماً لم يكن هناك في سورية كلها من يستطيع تقديم أي مساعدة له في معرفة أو تعلم اليونانية القديمة التي تختلف كثيراً عن يونانية اليوم ولا التدمرية التي لم يكن يمتلك القدرة على قراءة نقوشها دون اليونانية إلا خالد الأسعد التدمري مدير آثار ومتحف تدمر آنذاك وعدنان البني ونسيب صليبي ولهذا كان التحدي كبيراً لأنه ما من معاهد يمكن اللجوء اليها لهذا الغرض ليبدأ بالاعتماد على نفسه وكانت البداية من خلال قراءة الكتاب المقدس أو الإنجيل باليونانية وشيئاً فشيئاً بدأ يحبو في هذا المجال بجهد فردي.
وبين الباحث جغنون أنه في سورية بعض رجال السلك الاكليريكلي المسيحي ممن درسوا في اليونان يعرفون هذه اللغة القديمة غير أن معرفة اللغة شيء والتعامل مع النقوش الأثرية شيء آخر تماماً مؤكداً أن بعض هؤلاء الاكليريكيين أفاده أكثر من مرة حين عرض عليهم صوراً لبعض النقوش اليونانية انهم لايستطعيون قراءتها ولا ترجمتها.
وعما يميز حمص عن غيرها من حيث القيمة التاريخية للنقوش الكتابية الأثرية المكتشفة فيها قال جغنون إن حمص هي جزء من الكل السوري الحضاري وان النقوش الأثرية التي تم العثور عليها في هذه المدينة وجوارها كانت موضع اهتمام علماء الابيغرافيا من الاثاريين منذ أمد بعيد وان عدداً كبيراً من نقوشها تمت قراءته سابقاً من قبل علماء ابيغرافيا أجانب وفرنسيين بشكل خاص وتم نشر نتائج هذه القراءات في مجلد صادر عن هيئة تخصصية فرنسية تنشر ابحاثها في سلسلة مجلدات تحمل اسم أي جل ال اس التي هي اختصار لعبارة فرنسية ترجمتها النقوش اليونانية واللاتينية في سورية وقد خصصت المجلد الخامس منها للنقوش المكتشفة في حمص وحماة ومحيطهما واعطته اسم ايميسي أي الحمصية ويقصد به النقوش الحمصية الصادرة عام 1959م.
أما فيما يخص آخر المكتشفات في حمص فأوضح جغنون أن النواويس التوابيت الحجري الأربعة كانت اخر المكتشفات بالصدفة في السادس عشر من نيسان عام2006 أثناء قيام اليات تنفيذ مشروع الصرف الصحي في شارع الاغر على طريق حمص دمشق وقد تم تكليفه شخصياً من قبل مديرية اثار حمص بإجراء دراسة على النقوش الزخرفية والكتابية التي حملتها وقدم الدراسة عنها في حينها مع قراءة النقوش الكتابية اليونانية التي حملها اثنان من هذه النواويس وتعود للقرنين الثاني والخامس الميلادي.
وعبر جغنون عن أسفه لعدم وجود جمعية تاريخية مختصة تفي النقوش الأثرية الكتابية حقها في بلادنا.. وعن اتصالاته مع علماء قراءة نقوش أثرية أجانب.. قال إن عدداً من العلماء زاره أكثر من مرة وأهمهم هو الفرنسي بيير لوي غاتييه الذي قدم إلى سورية عام 2007 وهو أستاذ بجامعة ليون بفرنسا والذي أبدى استغرابه من انه الوحيد في سورية الذي يعمل على قراءة النقوش اليونانية القديمة.
ومن هؤلاء ايضاً عالما الابيغرافيا الفرنسيان جان كلود دوكور وجوليان اليكو اللذان قام واياهما في عامي 2008 و2009 بجولات مشتركة على النقوش الأثرية.
وتحدث جغنون عن أهمية ثقافة الابيغرافيا وخاصة إذا علمنا أن هناك عشرات الآلاف من النقوش اليونانية المكتشفة على امتداد الوطن السوري اضافة إلى النقوش بمختلف اللغات القديمة الأخرى التي تشكل ارثاً وثائقياً بالغ الاهمية للدارسين والباحثين والمؤرخين على حد سواء.
ويرى أن تنمية هذه الثقافة في بلادنا تكون بإحداث معاهد متخصصة لتدريسها في جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية أولا وباطلاق برامج إعلامية نوعية للتوعية باهميتها وتداولها وهذا يحتاج إلى علماء متخصصين نفتقر إليهم اليوم بعيدا عن اولئك المدعين الذين تستضيفهم بعض محطات التلفزة ويتخمونها بمعلوماتهم واجتهاداتهم وتخريصاتهم وهم لم يسبق أن وضعوا اسمهم ولو على نقش واحد قاموا بقراءته قبل غيرهم او نشروه في الدوريات العلمية المتخصصة في هذا المجال.
وتابع أن أنجع السبل إلى بلوغ هذا المأرب هو ايفاد الطلبة الذين يبدون اهتماماً خاصاً في هذا الحقل إلى الخارج للتخصص في أحد فروعه لدعم الجامعات وبعثات التنقيب الأثري في المديرية العامة للآثار والمتاحف كما أن للندوات والمؤتمرات دورا هاما في تنمية هذه الثقافة.
كما أعرب الباحث جغنون عن أسفه لأنه لم يؤلف حتى تاريخه أي كتاب في هذا المجال وان كانت لديه من القراءات لنصوص مكتشفة حديثاً وغير مقروءة سابقاً مايكفي لكتاب متوسط الحجم.. ولكنه أحجم عن التأليف بسبب ندرة المهتمين بالنقوش الأثرية ومع ذلك فانه ينشر في دوريات متخصصة ويقوم بقراءة نقوش مكتشفة حديثاً لم يسبقه أحد من علماء الابيغرافيا إلى قراءتها.
يذكر أن عالم الآثار الايطالي باسكال كاستيلانا كان يرسل إليه صور ما يكتشفه من نقوش غير مقروءة سابقاً ليقوم شخصياً بقراءتها له وينشر هذه القراءات في مجلات علمية متخصصة.
وختم جغنون بالقول إنه ليس من الضروري لعالم الابيغرافيا أن يعمل في مواقع التنقيب أو حتى أن يزور هذه المواقع طالما أن بالإمكان تأمين صور أو طبعات استنباج واضحة للنقوش وإذا ما تعذر ذلك فحينذاك لابد من زيارة الموقع للاطلاع والكشف الحسي عليه معرباً عن امنياته بزيارة كافة المواقع الأثرية داخل وخارج سورية لهذا الغرض.
حنان سويد