لم تكن مفاجئة تلك اللهفة غير المفتعلة التي أبداها أهلنا في الحسكة وهم يتسابقون-قافزين فوق كل اعتبارٍ إثني أو طائفي- لتلبية نداء التبرع بالدم الذي أعلنه مشفى المدينة لإسعاف جرحى التفجير الإرهابي الحاقد، وكم كانت مؤلمة المشاهد التي بثّتها “الإخبارية السورية” مباشرةً من موقع التفجير، إلّا أن ثمة ترميماً مباشراً للصدع المعنوي والنفسي الذي اعترى كل متابع من هول الحدث، ترافق مع صوت المحافظ الذي شكر الكم الهائل من المبادرات معلناً كفاية المشفى.
من هذه الزاوية الصغيرة يخرج تساؤل كبير-ويبدو مطلوباً بإلحاح- عن أي خوف أو قلقٍ من شأنه معاندة كل من يتفاءل بغد بلدٍ منسوجةٍ هكذا بهذه العناية الإلهية، ومتلاحمة بقدسية الهوية السورية التي تساقطت أمامها كل الهويات والاعتبارات الطارئة تسللاً تحت جنح أزمةٍ تم استيرادها تهريباً؟.
وأي قلقٍ على سورية علينا أن نستسلم له، ونحن نستنتج أن الضخ المكثّف من التطمينات التي دفع بها رئيس اتحاد المصدرين السوريين للأشقاء العراقيين، بشأن الأوضاع في سورية، عبر وسائل إعلامهم خلال معرض بغداد، وتركيزه على “خصوصية” عدم الوصول إلى فرض إجراءات حظر التجوّل في سورية، كانت من أبرز الأسباب التي دفعت السلطات هناك لإلغاء العمل بهكذا خيار احترازي، استجابةً لمطالبات الإعلاميين الذين التقطوا إشارة المقارنة بحرفية وإتقان.. وهاهم رجال الأعمال من الأشقاء العراقيين بالعشرات يجولون في شوارع دمشق بمناسبة المعرض الذي افتتح، أمس، في فندق الداماروز، فهل علينا أن نتوجس على مستقبل بلد مازالت مسطرة الأمان فيه صالحة كمقياسٍ وقدوة رغم الأزمة وتصديراتها الإعلامية بكل ما تخللها من تهويل؟.
لعلنا لم نعد بحاجة إلى إشارات طمأنة على أفق سورية أكثر من تحوّل البيئات التي احتضنت الإرهاب يوماً تحت وطأة الغواية حيناً والقسر أحياناً، إلى بيئات لافظة للمخربين، وانتعاش سيرورة المصالحات الوطنية، وعودة لم شمل السوريين، التي تشهد عليها متوالية التسويات وأعداد التائبين، ثمّ تدفقات العائدين إلى أحضان البلد من مطارح اللجوء بعد أن ذاقوا مرارة تجريب دور “الأيتام على مأدبة اللئام”.
وربما على الجميع الآن أن يجيد قراءة ما بين سطور المتغيرات والانعطافات الحادة في المواقف الدولية إزاء سورية، فثمة ما هو أكثر من مجرد زيارة الوفد البرلماني الفرنسي إلى دمشق، والتصريحات التي تعيد ترداد وجهة نظر الدولة السورية بشأن الحل السياسي، وتكررت على ألسنة سيناتورات أمريكيين ومسؤولين أوروبيين، قد لا يكون موقف “شتاينماير” وزير الخارجية الألماني منذ يومين خاتمة في سياقها، بل بداية تستدعيها المتغيرات البنيوية على الأرض في ميزان القوى.
وعلى الأرجح لمغزى التحولات الدراماتيكية في المواقف المعلنة والمبطنة للأوروبيين وحتى الأميركيين، ترجمات أكثر عمقاً من المعطيات السطحية المقتصرة على مجريات “الكر والفر” في الميدان العسكري، فلثبات مرتكزات “وطنية الدولة” وتفوّق ما ينبثق عنها من مفاهيم وإسقاطات على وصفات التقسيم المعلّبة والجاهزة، صدى التقطته دوائر القرار الغربي و”المطابخ” ذاتها التي احتضنت إعداد هذه الوصفات، وبدأت فصول الانعطاف التي سنعاين المزيد منها من الآن فصاعداً.
إلّا أن اللافت الذي يستشير الرغبة بالسخرية والضحك هو أن تقنيات “العزل الفندقي” حالت دون وصول ترددات هذه الأصداء إلى متسولي لقب “معارض سوري” في الخارج، فلم يكن مستغرباً استمرار اسطوانات الفحيح التي يصرّ على تكرارها مفلسون لا يملكون إلّاها رصيداً للارتزاق.
بالمناسبة لا بد أن نذكّر كل من لا يحب أن يتذكّر، بخيبة أمل من انتظروا سماع أي صوت إدانة لتفجير الحسكة على لسان أحد من زاعمي الوصاية والمتاجرين بتمثيل “طموحات” أهالي المنطقة المستهدفة، ولا من شركائهم في الإقامة والسباق للفوز بحفنة دولارات تلقى عليهم من النوافذ.
بقلم: ناظم عيد