فيما تقترب الأزمة في سورية من إنهاء عامها الرابع، الذي نأمل أن يكون الأخير، يبدو أن ثمة معطيات عدة، رافقت هذه الأعوام الأربعة، أصبحت مع نهايتها حقائق ثابتة لا ينكرها إلّا مكابر أو مغرض.
أول هذه الحقائق أنه إذا كان من غير الممكن فهم السياسة الأمريكية في العالم إلّا بدراسة واستيعاب ظاهرة القراصنة في القرون الوسطى وكيفية عملهم وجوهر تفكيرهم المصلحي الانتهازي اللاأخلاقي، وهو ما يؤكده، مثلاً، تصريح “ديمبسي” الأخير بأنه “من الخطأ تكثيف الضربات الجوية على “داعش”، فإنه لا يمكن فهم السياسة الفرنسية الحالية اتجاه المنطقة بالمجمل، واتجاه سورية بالخصوص، دون فهم حركة “المحفظة المالية” لدول الخليج، حيث حلّ لدى باريس شعار المال أولاً، مكان شعارات “التنوير” ومبادئ “روسو” المعروفة.
أما ثاني هذه الحقائق فإنه لا يمكن فهم سياسة “السلطان العثماني” وحزبه، داخلياً وخارجياً، دون دراسة معمّقة لظاهرة التزاوج المرضي بين تورّم فكرة “الأنا” عند السياسي، مع أفكار مفارقة للواقع مثل “الأستاذية” عند “الإخوان المسلمين”.
وثالث هذه الحقائق أنه لا يمكن فهم سياسة “محميات الخليج”، دون التعمّق في استعدادهم الفطري، والوجودي أيضاً، لتنفيذ العقيدة الصهيوأمريكية المتناسبة مع جوهر العقيدة الوهابية القائمة على استلاب الآخر و”التهامه” جسدياً ومعنوياً، والمرتكزة على مفاهيم “ما قبل حضارية” مثل “التوحش”، و”الدم الدم.. الهدم الهدم”، وما إلى ذلك.
ورابع هذه الحقائق أنه لا يمكن فهم سياسة الجامعة العربية -التي اعترف منذ يومين كاتب سعودي بخطأ سياساتها، منذ بداية الأزمة، اتجاه سورية- كما لا يمكن فهم تحركات جلّ، لا كلّ، “المعارضات” السورية المختلفة، دون فهم كل ما سبق بيانه، فإذا كان من غير المستغرب ألا يعقد اجتماع للجامعة دون جدول أعمال أمريكي واضح ومبوّب، فقد أصبح أمراً معتاداً أن نسمع بطلب دولة ما ضم “فلانٍ” ما إلى اجتماعات تنسيقية “للمعارضات السورية” واستبعاد آخر، فكلّ له مربط خيله المعروف.
وإذا أردت أن تعرف كيف ينظر هؤلاء جميعاً إلى من يقف في وجه مشاريعهم في أي مكان، فيكفي أن تقرأ الآتي: “اقترح معلّق إذاعة صدى موسكو، ماتفيي غانابولسكي، حجز 87% من الروس، الذين تشير استطلاعات الرأي إلى تأييدهم لبوتين، خلف ستار حديدي لأنهم سفلة خطرون وذوو عقلية سوفياتية منحطة”، وهو “اقتراح” يؤيده من سبق ذكرهم أعلاه ضد مؤيدي الدولة السورية والعراقية واللبنانية وكل من يخرج عن نصهم ونصوصهم.
وبإطار ما سبق، يصبح فجور الموقف الفرنسي من الأزمة السورية و”النووي الإيراني” معاً، أمراً مفهوماً للغاية، فهو موقف مدفوع الأجر مسبقاً، كما يصبح فهم رفض المسلحين، ومن ورائهم، لخطة “حلب” ممكناً أيضاً، لأن هدفهم ليس “تجميد” الوضع في حلب، بل “تجميد” سورية بكاملها في دوامة العنف القاتل، على ما يأملون، وهو ما يفسر رهان “أسيادهم” على تبييض صفحة “جبهة النصرة” الإرهابية بتوصيف أممي، دون خوف من فصل “نبيل العربي” السابع والشهير، حيث إن استمرار النزيف السوري هو خطوة ضرورية في سياق استراتيجية “تفتيت الشرق الأوسط إلى جيوب طائفية” بهدف فسح المجال أمام شرعنة قيام “الدولة اليهودية” المزمعة.
أما الحقيقة الخامسة، فمفادها أن التفتت والشقاق والانهيار والتخلف الفكري والسياسي والديني الذي يضرب أطنابه في أرجاء الأرض العربية هو نتاج طبيعي لسيادة الحقبة الوهابية، دينياً وسياسياً وإعلامياً، على المنطقة، لكنها حقبة، تقول كل الدلائل: إنها تقترب من نهايتها، وتلك من فضائل وحقائق الأزمة السورية، وهي تنهي عامها الرابع بترسّخ الحقيقة السادسة والأخيرة التي يخطها الميدان السوري وتغيّراته اللافتة، فما يحصل في جنوب سورية وشمالها، وما حصل في جنوب دمشق منذ يومين من “انشقاق” معاكس لمجموعات عن المسلحين وانضمامهم للدولة السورية هو صورة المستقبل الآتي، وإن غداً لناظره قريب.
بقلم: أحمد حسن