دمشق-سانا
اشتغل الفنان السوري العالمي سهيل بدور المولود عام 1957 على خلطة سحرية تجمع بين المرأة والموسيقا في شكل من أشكال الانتظار المستمر والمدمن ليختصر كل نساء العالم في أمه التي كانت أهم لوحة رسمها في حياته، فبقي طفلا مشاغبا بحجم كبير يخرج حزنه الدفين على شكل فرح يسكن لوحاته ويتجلى بالألوان البكر الصافية التي حملتها ذاكرته من قريته التي انطلق منها حاملا الفن السوري نحو العالمية.
قدم له تجواله المستمر في معظم دول وقارات العالم قدراً من الجرأة والحرية والثقافة الفنية والتثاقف مع التجارب العالمية ومع كل موجودات الغربة ومفرداتها إلا أن لوحاته بقيت تشبهه في لمسات من “جنون عبقري” وعفوية طفولية إلى أن صدمته الأزمة التي تعيشها بلاده فسجل ماتمر به من لغط إنساني في جداريات تحمل قلقه وحزنه.. وخلال تواجده في سورية أجرت سانا الثقافية معه هذا الحوار:
ماهي رسالتك الفنية التي تحملها للعالم عن سورية ؟
جزء من رسالتي هو حضوري كفنان سوري بالتأكيد لكن مشروعي الفني شيء آخر مختلف أقدم فيه قلقي وحزني وفرحي.. وفي الحضور العام كنت أحرص على أن أكون فنانا سوريا بامتياز وكوني سورياً فهذا كان يحملني مسؤولية وأعباء ويعرضني لمناكفات وصعوبات وخاصة بعد الأزمة إذ تعرضت لمواقف كان فيها من يساومني وفي إحدى الدول العربية وأثناء تكريمي من بين مئة فنان عربي وعالمي امتنعوا عن رفع العلم السوري ولكن بعد إصراري على أنه علم وطني وبعد تهديدي بالانسحاب تم التجاوب وشعرت بالرضا لأنني دافعت عن سوريتي.
ماذا تسمي طريقتك في الرسم وإلى أي مدرسة تنتمي ؟
في العشرين سنة الأخيرة صار هناك انفتاح على كل ماله علاقة بحرية الفنان بعيدا عن المدارس التي أدت إلى عقم في فكر الفنان وتأطيره.. وأنا ابن فن مدرسي بامتياز ولكن تجوالي المستمر في الكثير من دول العالم جعلني أكتسب خبرة أكثر في مجال المثاقفة المباشرة مع تجارب الغرب وشرق آسيا والدول العربية وأكتسب خبرة في مجال التفسير البصري المختلف للوحة المؤطرة بعيدا عن التنظير إذ صار الفن أكثر حرية يقدم الفنان فيه ما يريد وما يشتهي ولكن ضمن ضوابط وقيم فنية محترمة.
ماهي علاقتك بالألوان ولماذا تختار الصارخة منها؟
أنا ابن قرية حملتني هذا القدر اللطيف من ذاكرة اللون العفوي البكر فألوان الريف بالمجمل هي صافية ونقية وطاهرة وإن كنت قد غادرتها منذ زمن ومابقي من الألوان في زاوية من ذاكرتي حاولت تطويرها والاجتهاد عليها وأقدمها كألوان طازجة وبكر أيضا.. لا أعمل كثيرا على المعالجات اللونية بل أشتغل على اللون الطازج ومن الصعب صياغة عمل فني من لون طازج دون خبرة ودون تجريب وبحث طويل فاللون ثقافة وعلم قائم بذاته لمعرفة كيف نجانس الألوان وكيف نصنع الهارموني والتضاد اللوني.
إلى أي مدى تشبهك لوحاتك ؟
لوحاتي فيها شيء من الجنون وفيها ما يسمى السهل الممتنع فأنا أعمل بعفوية مطلقة وأحيانا أتعمد أن أترك الأطفال يرسمون على لوحتي ثم أبني على رسوماتهم الطفولية ولم أستطع الخروج من حالة كوني طفلا مشاغبا بحجم كبير لا أعرف إلى أي مدى تشبهني في الشكل لكن في المعنى بدون شك هي خلاصة تجربتي الفكرية والمعرفية والإنسانية فأنا أشتغل على الإنسان كمادة هي الأهم وأعمل على الانتظار كفحوى أو كمعنى أو كحالة قائمة في كل إنسان على وجه الأرض فكلنا بحالة انتظار دائم .. وأنا أحاول تفكيك هذا الانتظار ماهو ؟وكيف هو ؟وإلى أين سيوصلنا.
كيف توفق بين كونك فنانا وباحثا وقاصا وشاعرا ومسرحيا ؟
في الشعر لدي تجربة معترف بها ولكنني لست شاعرا مهما فأنا أكتب الشعر في الجانب الذي لا أستطيع رسمه فأكمل الفن بالشعر لكن لاأعتقد أني شاعر مهم ..وفي القصة كتبت شيئا له علاقة بأمي في كل قصصي ولاأعرف الى أي حد يمكن تسميتي قاصا …وفي المسرح عملت مطولا مع زيناتي قدسية ويوسف حنا وجواد الأسدي وفرحان بلبل الذين أعتبرهم أساتذتي وهم أول من زرع بذور الوعي في داخلي في بداياتي قبل أن أخط طريقي في الفن التشكيلي.
وبالعودة إلى البدايات فزت وأنا طالب في الإعدادية بجائزة اليونسكو في الرسم وكانت لوحتي عن الفقر والجوع باعتباري ابن عائلة فقيرة ماجعلني أجيد رسم هذا الموضوع بصدق وكانت الجائزة مادية ففرحت بها كثيرا.
برأيك اللون هو الأهم في اللوحة أم الفكرة؟
الموضوع شائك بعض الشيء ولايمكن الفصل بين اللون والفكرة لكن في الشرق يحملون اللوحة أكثر مما تحتمل فيجعلونها مليئة بالأفكار”معجوقة” وكل سنتمتر فيها مستثمر وهذا لايعيب اللوحة لكنه يفقدها رشاقتها ويجعلها متعبة للبصر ومربكة للمشاهد أما في الغرب فقد اشتغلوا على شيء آخر وعلى مفردة بسيطة بخلفية عالية جدا ومن ثم انتقلت هذه التجارب شيئا فشيئا الينا وبرأيي..جميل أن تكون اللوحة من أجل الجمال فقط ولكن هناك من يقول إن اللوحة التي لا تحمل فكرا هي لوحة تافهة وأنا أرفض هذا الكلام.
المهم أن يقدم الفنان لوحة بمقاييس جميلة ورائعة لكن همومنا كشرقيين ومواضيعنا المتلاحقة جعلت الفنانين يميلون الى اتخام اللوحة بعشرين فكرة وثلاثين معالجة وأربعين حلا ولكن مع التجريب والبحث بدأ الفنان العربي بشكل عام والسوري خاصة يقدم اختصارات أو حلول فيها تلخيصات جميلة ومهمة برهان اللون والشكل والموضوع والمضمون والمفردة والوحدة أي أصبح هناك معالجات حديثة خلصت اللوحة إلى حد ما مما كان يثقلها ..فالتجريد هو قمة الجمال لمن يفهم ولمن عنده رغبة في اقتناء التجريد.
ماهو القاسم المشترك بين لوحاتك؟
أنا اشتغل على الانتظار .. على امرأة وموسيقا .. المرأة هي المساحة الرحبة للحب والسكينة والود والرحمة والخصب والنماء والعطاء وأنطلق في كل هذه المواضيع من أمي فالمرأة بالنسبة لي هي الأم بغض النظر عن التوصيفات الأخرى للمرأة التي أعتبرها منصة انطلاق للحياة .. أما الموسيقا فأردت المقاربة بينها وبين المرأة حتى أن الآلات الموسيقية فيها شيء أنثوي ودود ومن وجهة نظري فإن أي لحن على وجه الأرض هو أنثوي بامتياز لمافيه من دفء العاطفة والحميمية والود والروح وهذه الخلطة البسيطة من الموسيقا والمرأة هي شكل من أشكال الانتظار المستمر والمدمن.
ماهو رصيدك من الجوائز وماهي الجائزة التي تعتز بها ؟
حصلت على عشر جوائز مهمة ولكن بعضها يشكل علامة فارقة في حياتي نظرا لوجود بلدان من الصعب أن يفوز الفنان فيها بالجوائز ففي مصر لا يمنحون الجائزة لغير المصريين ولكنني فزت بجائزة “العداسة” الذهبية للفنون والعمارة عام 2010 وهي تمنح كل خمس سنوات مرة لفنان عربي وأنا نلتها بجدارة ..وهناك جائزة السعفة الذهبية التي حصلت عليها في كولورادو بأمريكا عن عمل متداخل بين الرسم والنحت “انستوليشن” في توليفة فنية بسيطة اشتغلتها بمرارة عالية لاعتقادي بأن الأميركان لن يحترموا عملي وعندما فزت بكيت من قلبي .. وكرمت في تونس أخيرا السنة الماضية على مجموع إسهاماتي في المجال الفني في مهرجان المحرس الدولي ويبقى التكريم أعم وأشمل من الجائزة فأن تكرمك مدينة هو أمر فيه قدسية وفيه شيء أهم وأقيم على صعيد الفن والروح فالجائزة قد تمنحها لجنة مكونة من أربعة أشخاص على عمل واحد فيما التكريم هو على مجمل التجربة الفنية ويشمل كل ماقدمه الفنان لذلك يدغدغ التكريم الروح وحضوره أرقى بكثير وأسمى وأجمل .. كما كرمتني مدينة القنيطرة المغربية وكرمت في بلغاريا وفي تونس مرتين وفي مصر مرتين وفي الهند وفي بروكسل على خلاصة تجربتي ..أنا أول فنان عربي دعي إلى المركز العالمي للفن الآسيوي في أمريكا في ولاية نبراسكا وأعتقد أن هذه الدعوة فتحت أفقا عريضا لي.
تنقلك في معظم دول العالم ماذا أضاف لتجربتك الفنية ؟
أضاف لي الكثير وجعلني أتخلص من معظم الشوائب التي كنت أحملها بفهمي لحلول العمل الفني وأقدم تلخيصات مهمة جدا وجعلني أكثر جرأة ..مشاهداتي الغنية والعجائبية لأعمال معروضة في أهم متاحف العالم يجعلني مضطرا لقبولها شئت أم أبيت ويدفعني للمغامرة وان أكون أكثر جرأة في عملي الفني وربما قدم لي تجوالي المستمر هذا القدر من الجرأة والحرية والثقافة المباشرة والتثاقف المباشر مع كل موجودات الغربة ومفرداتها في آسيا وأفريقيا وأمريكا واستراليا.
من أين تستمد الفرح في لوحاتك؟
من حزني .. هذا الكم من الفرح الموجود في لوحاتي سببه حزني رغم أني أعيش حياة سعيدة لكن هناك حزن دفين لايخرج إلا على شكل فرح يسكن لوحاتي وأنا أرى الحياة جميلة وجديرة أن تعاش والأجمل أن نبقى نحب بصدق وبدفء انساني.
هل مازال هناك مكان للفن وسط السواد المحيط بنا ؟
سؤال صعب ولكنه ضرورة وأعتقد أنه يوجد مكان للفن رغم الخراب بشرط أن نقدمه بحب فأنا لاأستطيع حمل السلاح ولكني استطيع أن أقدم فنا يحمل شيئا من الوعي وهذا يستدعي الرهان على ثقافة الفنان وقد يسأل سائل هل الوقت مناسب للوحة أقول نعم الوقت مناسب للوحة وللفرح ولكل المشاعر الانسانية الأخرى 0ومن مهام الفن التشكيلي تسجيل هذا اللغط الانساني الذي نشهده.. وطالما كان الفنان عبر التاريخ المسجل العبقري للأحداث.
ماذا عن أعمالك الحالية ؟
لدي عقد مع شركة ألمانية هي المسؤولة عن أعمالي ماجعلني في بحبوحة مادية يحلم بها أي فنان ولدي مشروع نحت كبير سأعلن عنه في وقته وعندي معرض قادم في مصر في آذار وفي تونس بنيسان وفي الهند بحزيران .. وأقوم بتدريب فنانين محترفين في كل من جنيف و دبي و أمريكا.
هل للفن التشكيلي السوري حضور في المشهد الفني العالمي؟
اللوحة السورية حاضرة وبقوة في العالم وهي من اللوحات الرائجة ..ونادرا ماتخلو المزادات العالمية من أعمال لرواد ولشباب من سورية والفنانون السوريون أصحاب مدرسة تعبيرية تشتغل على الهم الانساني وقد تمكن عدد كبير منهم من عرض أعمالهم في الخارج اذ قدموا لوحات غاية في الأهمية وبأرقام وبأسعار قد تقترب من الخيال تصل الى أربعمئة ألف دولار للوحة وهذا مايدغدغ الروح .. ولاأنسى في حياتي عندما كان هناك 12 معرضا لفنانين سوريين في وقت واحد في دبي عام 2009 وكان معرضي من بينها.
هل كان للأزمة تأثير على أعمالك؟
عملت 3 جداريات من وحي الأزمة اختصرت فيها مشاهداتي “سوناتا وجع وطن” واحد واثنين و لوحة “الحرب والخراب” وهي عبارة عن شخص مجهول مشوه وميت ومقتول وربما كان أنا أو هو أو أي سوري آخر .. وأقول بكل صدق أن عقلي لايصدق مايجري في بلدي أهو حلم أم حقيقة.
هل بإمكان الفن اخراجنا من أزمتنا؟
قبل كل شيء يجب أن نؤمن بدور المبدع .. وانا ضد أن يعمل المبدع في السياسة واذا كان لابد فيجب ألا يخون على الأقل وانا شخصيا رهاني على الوطن الذي هو للجميع.
كيف نتخلص من الأمية الفنية؟
الفن ثقافة وعلم وليس شيئا عارضا .. في الغرب يحمل الناس تراكما ثقافيا ويتعلمون احترام الفنون منذ الصغر ثقافة فهم الفن وتذوق الفن وهذا لايأتي باقامة المعارض فقط .. والأخطر من ذلك وجود فنانين أميين بكل معنى الكلمة .. فعلى الفنان أن يكون مثقفا بالحد الأدنى لكي يعرف كيف يقدم نفسه للآخرين ويدافع عن لوحته بحب ودفء.
هل فكرت بالعودة للاستقرار في سورية؟
بإمكاني خدمة سورية في الخارج أكثر .. هنا لاأستطيع أكثر من عرض لوحاتي في صالة ما وماذا بعد ؟من أين أعيش .. لقمة الخبز مهمة في حياتنا وقلائل من يستطيعون دفع مبلغ كبير مقابل لوحة.
مارأيك بالحراك الثقافي الموجود حاليا في سورية؟
حضرت معرض الخريف في خان اسعد باشا ولاحظت غياب بعض الأسماء وكنت أتمنى أن تكون الفعالية أكبر من ذلك ولكن في هذه الظروف لابأس لكون الفنان يعاني بسبب الأزمة وأتمنى أن تقتني الوزارة أعمال الفنانين.
التجارب التشكيلية الموجودة في سورية مهمة جدا وجديرة بالبحث فاللوحة التشكيلية السورية تتميز بالرصانة والحضور الحقيقي وهي مطلوبة ومرغوبة.
ماذا عن تجربتك في النحت؟
كل سنة أنتج أربعة أو خمسة أعمال نحتية برونزية بقياسات كبيرة .. والنحت من الصعب أن ينشغل بشكل فردي وهو بحاجة إلى فريق عمل إضافة إلى صعوبة نقله من بلد إلى آخر مايعرضه للكسر والتلف والفقدان وللاسف مازالت المنحوتة في الخليج تعتبر صنما وهذا مادفعني لان اكون مقلا في أعمالي النحتية والنحت هو عالمي الأجمل والأرحب والأوسع وللاسف ثمن لوحتي يعادل ضعفي ثمن عملي النحتي ومؤخرا اقتنيت بيتا في اللاذقية ليكون مشغلا للنحت.
ماهي الصعوبات التي واجهتك؟
قرار التفرغ للفن الذي اتخذته كان قرارا صعبا جدا والتفرغ للفن في الخليج شبه مستحيل… وعندما يتحرر الفنان اقتصاديا يرتاح ويصبح انتقائيا في أعماله ولهذا بدأت اشتغل خياراتي المطلقة دون أن يفرض علي أحد قيودا اعمل مرتاحا واتمنى لكل فنان أن يرتاح.
كيف ترى حضور المرأة في لوحاتك؟
كل أعمالي امرأة والمرأة هي امي وأهم لوحة اشتغلتها في حياتي هي لوحة والدتي فالمرأة هي منصة انطلاق حقيقية للوجود وصعب تفكيك عوالم هذه المرأة .. استطعت تفكيك بعضها لكن يبقى هناك جوانب سرية كنت أتمنى أن استطيع تفكيكها واعرف كم تحتوي من رحمة وسكينة فالام كقيمة خالدة في الحياة هي الاهم ولكن هذا لايقلل من شأن المرأة الزوجة والحبيبة والأخت.. والمرأة بالنسبة لي ولكل فناني الأرض هي المفتاح منذ بدء الخليقة .. إنها منجم أسرار يصعب تفكيكها.
ماهي طموحاتك؟
طموحي أن أبقى أعمل وانتج وأبقى حاضرا وأنصح الفنانين الشباب أن يعملوا بصدق ولا يلتفتوا إلى الوراء وأن يجتهدوا ويشتغلوا ..الفرصة التي لاتأتيني أذهب اليها كيف لا أعرف.. المهم أن لاأستكين ولا أستسلم.
سلوى صالح