الأيام النووية والصمود السوري.. دروس وعبر

بغض النظر عن مآل المفاوضات النووية بين إيران والغرب -وقد أصبح هذا المآل معروفاً للجميع- إلا أن مسارها الطويل والصعب يتجاوز، في جوهره، الملف النووي بحد ذاته، ليقدّم صورة معبّرة ومكثّفة عن صدام مشروعين متناقضين متنافرين، الأول مشروع الاستقلال الوطني، الفعلي لا الصوري، والثاني مشروع الهيمنة الاستعمارية الذي لا يقبل سوى بالتابعين والخانعين، كما يقدّم، المسار ذاته، دروساً وعبراً عديدة عن طبيعة بعض القوى الإقليمية التي استمرأت الاستعمار واعتادت الحياة تحت ظلاله، فهي، وتلك طبيعة الأشياء، تبدو أكثر حرصاً من المستعمِر ذاته على بقائه ودوام أيامه، وهو ما يظهره خوفها المَرَضيّ من فكرة الاستقلال والسيادة الوطنية وتبعاتها واستحقاقاتها الداخلية والخارجية، ويفسر استشراسها الملحوظ على كل لحظة كرامة تلوح من أترابها وبني جلدتها وإخوتها في المسار والمصير.

وككل عملية سياسية بهذه المستوى، انقسم العالم، اتجاه المفاوضات، إلى فريقين، الأول اعتبر أن تحقيق إيران لبعض أهدافها هو، إلى جانب كونه حقاً طبيعياً تدعمه شرعة الأمم المتحدة ذاتها، لبنة أخرى تضاف إلى بناء السيادة الوطنية لدول ما يسمى بالعالم الثالث، والثاني اعتبر نفسه معنياً بمنع ذلك بكل قواه وإمكانياته.

وإذا كان من الطبيعي أن تقف “إسرائيل” في الجانب الثاني، فإن وقوف دول عربية هنا أيضاً، لم يكن سوى دليل جديد، ليس فقط على مدى قوة الضغوط التي تتعرض لها كي تسير بركاب المشروع الاستعماري، بل على شعور ذاتي واع لنخبها الحاكمة بأن بقاءها ودوامها يكمن في بقاء صورة العالم، وعلاقة السيد-العبد الذي تحكمه، كما هي دون تغيير أو تبديل، فبدل أن تستبطن، هذه الدول، جوهر فكرة “النووي”، من حيث هي بحث حثيث ومشروع في الآن ذاته عن إمكانية استخدام الموارد المحلية لبناء الاستقلال الوطني، لتبني عليها في دولها ومجتمعاتها، انخرطت، أكثر من السيد ذاته، في معركة إدامة تبعية المنطقة وخضوعها، زاجة بكل قواها الصلبة والناعمة في كل ساحات المواجهة الممكنة والمعروفة.

والحال فإن الأمر مشابه في حالة سورية، فقد كان للمسار الاستقلالي الذي سارت عليه البلاد، وخوف الأطراف السابقة ذاتها من فكرة الاستقلال الوطني، أن يفسرا معاً وحشية وضراوة الهجوم الخليجي-التركي-الغربي على الدولة الوطنية فيها، ومحاولتهم المجرمة لتفكيكها أو على الأقل لخلق “نخبة” حاكمة موالية لمشروعهم، والتي، أي هذه الدولة، ما كان لها أن تصمد كل هذا الوقت، لولا استثمارها السابق لمواردها البشرية والمادية في هذا المشروع الاستقلالي، رغم حاجته، أي هذا المشروع، إلى المزيد من التعزيز عبر إشراك الجميع في المغنم والمغرم.

بهذا المعنى فإن ما سبق كله يؤكد حقيقة واحدة، هذا هو العالم الحقيقي الذي نعيش فيه، وهذه هي مقوماته وأسسه، ومسار الأيام النووية السابقة، كما مسار الصمود السوري الكبير والإصرار على حق السوريين فقط في تحديد مستقبلهم وبناء دولتهم الوطنية، تبدوان لحظتين ضروريتين للتفريق بين من يعتبر السياسة علماً وفناً، ويمارسها وفق ذلك للحصول على مزيد من الاستقلالية، ومن يعتقد أنها ليست أكثر من سحر وألاعيب يكفي للفوز بها تطبيق نظرية “الشيخ والخيمة” الشهيرة حيث كل شيء، بما فيه الاستقلال، وعلى الأصح وهم الاستقلال، خاضع لمنطق “المفاصلة” والبيع والشراء، كما هما أيضاً لحظتان للتفريق بين من يستثمر موارد الداخل وينميها لصيانة استقلاله في مواجهة الخارج، وبين من يعتبر الداخل وموارده وقواه أمراً نافلاً ما دامت خيمة الخارج التي اشتراها تغطيه وسلالته من بعده، وهو سيصل عاجلاً أم آجلاً، كما يعلمنا التاريخ، إلى مرحلة يصبح فيها “الشيخ” عارياً من الموارد أمام استحقاقات بيع المواقف لشراء البقاء.. وعلى الجميع أن يختار.

بقلم: أحمد حسن