عناصر شبكة العلاقات بين سورية ولبنان كثيرة. أحد العناصر الذي يضاف إلى تلك المعروفة عنصر النزوح. وهو ليس جديداً حيث نزح مئات الآلاف من اللبنانيين إلى ظهرهم التاريخي وحضنهم الدافئ سورية منذ منتصف السبعينات في موجات متعددة كان آخرها عام 2006. لكن هناك نزوح سوري من نوع آخر لا يهتم به الإعلام.
أثار فضولي منذ يومين إعلان نشرته صحيفة «الوطن» الدمشقية على صفحتها الأخيرة بمقدار ربع صفحة كاملة لصاحب عقار بيروتي يرغب في بيع عقاره بحوالي ستة ملايين دولار.. لاشك في أن المعلن اللبناني يعلم أن الاحتمال الأكبر بأن يكون الشاري سورياً ما دفعه إلى اختيار الصحيفة السورية.
في اليوم نفسه أتحفنا الإعلام بتعابير تذمر لبنان من النازحين السوريين، حيث «طفح كيله» و«امتلأت كأسه». النازحون من الحرب يبلغون وفق مبالغات الإعلام اللبناني مليوناً ونيفاً. وهم باب رزق للبنان – والأردن – لأن أموالاً ومساعدات طائلة يحصل عليها البلدان من مصادر مختلفة منها الأمم المتحدة. أما ما يصل إلى النازحين من هذا الحق فهو بائس جداً.
هذا المليون ونيف من النازحين –إن صدق الرقم المضخم- لا يشكلون سوى ستة بالمئة من الشعب السوري، والأرض السورية الواسعة تستطيع استقبالهم وخاصة أن حضنها كان حنوناً ودافئاً للبنانيين أنفسهم.
وإذا كانت مصادر الدوائر اللبنانية تركز على مشاعر العنصرية فليعلم رموزها أن أجدادهم سوريون. من جعجع وحتى الجميل والحريري، وأمرهم يتعلق بحقوق الوالدين ونكران الأصل وهي قضية أخلاقية بحتة.
وهؤلاء أسأل: ماذا لو انسحب من لبنان جميع أشكال «النزوح السوري»؟ في السنوات الأخيرة أنقذ السوريون السياحة في لبنان وكم أتمنى أن يقدم لنا أصحاب الدم الأزرق من زعماء العنصرية اللبنانية – من الأصول السورية – إحصائيات عن نسبة السوريين في إشغال الفنادق والبيوت وفي حركة الاستثمار، ناهيك عن حركة السوريين متوسطي الحال في «الويك إند» إلى لبنان والملايين التي يصرفونها في الأسواق اللبنانية، كم هي المليارات السورية التي نزحت كالسيل إلى لبنان منذ عهد عبد الناصر وبعد 1963 وبعدها لا تزال تنزح حتى اليوم؟ الحديث هنا عن مئات المليارات من الدولارات التي أسهمت في نهضة لبنان ناهيك عن الأردن.
وبعيداً عن نزوح المال، هل يحدثنا أحد عن قيمة نزوح «العَرَق» السوري والجهد والحرفية التي يتميز بها السوريون. كم من العَرَق سال من جبين حرفيي حلب وبنائيها المهرة الذين يتعاملون مع الحجر الأبيض كما يتعامل غيرهم مع العجين والأبنية الحجرية الشاهقة في بيروت وجبل لبنان شاهد لايمكن أن يزيله تصريح لمسؤول غير مسؤول، وهل يحدثنا أحد عن «نزوح» الدم السوري الذي ما زال يدمي قلوب أكثر من اثني عشر ألف أم سورية فقدت أبناءها على ارض لبنان لمساعدته في الخلاص من حربه الأهلية والاحتلال الصهيوني. وهل يحدثنا أحد عن السوريين الذين كانوا يجمعون الأموال تبرعاً لبناء الجسور والمراكز الثقافية وغيرها من البنى التحتية في البقاع والجنوب؟ وعن الدم المجاني بالطاقة الكهربائية والإصلاح المجاني لمصفاة طرابلس وغيرها…
أغلبية الشعب اللبناني وزعماؤه الوطنيون متمسكون بالمصير المشترك للشعبين. إنهم هم الذين «يبقون في الأرض» أما «الزبد» الذي نتحدث عنه هنا فيذهب في التاريخ هباء.
بقلم: مهدي دخل الله