بدأت الدول الأوروبية تدفع فاتورة ارتهانها للولايات المتحدة طوال العقدين الماضيين وعلى ما يبدو أن الإجراءات الاقتصادية الأميركية الأخيرة ما هي إلا مقدمة لفاتورة لن يكون أمام الاتحاد الأوروبي إلا دفعها في المرحلة الراهنة لأن العديد من دوله الفاعلة رمت بكل أسلحتها في السلة الأميركية خلال العشر سنوات الأخيرة.
إن الردود الأوروبية الخجولة على الإجراءات الاقتصادية الأميركية تشي بالواقع المشتت الذي تعيشه (القارة العجوز) والمؤهلة لاستمرار نزيف القوة السياسية والاقتصادية في ظل (جرعة السم البريطانية) والمشكلات التي تعصف بالكثير من دولها التي بدأت تنهشها النزعات الانفصالية والمشكلات الاقتصادية والتي من أسبابها اللحاق بقطار الاقتصاد الأميركي.
لقد كشفت الحرب الإرهابية على سورية عمق تأثير (رعاة البقر) في دوائر القرار الأوروبي لدرجة بدا فيها الاتحاد الأوروبي كقوة اقتصادية وسياسية أداة صاغرة مطيعة بيد الولايات المتحدة رغم التحذيرات الكثيرة لصناع القرار في الدول الأوروبية من خطورة هيمنة واشنطن على المستوى الأوروبي خاصة والدولي عموماً، وهو أيضاً ما نبهت له روسيا الاتحادية في مؤسسات الأمم المتحدة ومجموعة السبع الاقتصادية.
التغلغل الأميركي في مفاصل الحياة الأوروبية لم يقتصر على صناع القرار بل تفشى في الحلقات الأدنى وفعل فعله في دور الأحزاب العريقة ومؤسسات المجتمع المدني لدرجة وصل فيها الأمر أن يخسر مرشحو الحزبين الرئيسيين في فرنسا أمام حركة سياسية فرنسية (الجمهورية إلى الأمام) أسسها الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون عام 2016 وهذه الحالة لم تكن الوحيدة وممكنة الحدوث في أي دولة أوروبية أخرى.
أما على صعيد السياسة الخارجية فقد خسرت أوروبا الكثير من عوامل القوة بوضعها كامل بيضها في السلة الأميركية وبرز ذلك واضحاً في انغماسها غير المحسوب في (إعصار الربيع العربي) وتأييدها للسياسات الأميركية التي حولت العديد من الدول المتشاطئة مع البحر الأبيض المتوسط مرتعاً للإرهاب وعدم الاستقرار والذي كانت أولى نتائجه تمدد هذا الإرهاب إلى دول الاتحاد الأوروبي وأزمة اللاجئين التي تتفاقم يوماً بعد آخر.
وأدى اللحاق الأوروبي الأعمى بالسياسة الأميركية لجهة التفاعل السلبي مع روسيا والدول الصاعدة إلى ضعف التأثير الأوروبي إلى خلق مشكلات اقتصادية وأمنية وعسكرية مع هذه القوى وخاصة روسيا الاتحادية التي سعت عبر التفاعل مع الاتحاد الأوروبي لخلق نظام عالمي جديد يجنب الطرفين عواقب هيمنة وتسلط وغرور الولايات المتحدة.
وعلى المستوى الدولي برز واضحاً الدور الباهت والمعدوم لأوروبا في الصراع العربي الصهيوني واختصاره بدفع المساعدات المالية الأمر الذي أوصل الأمور إلى تماهي الموقفين الأميركي – الإسرائيلي متجلياً بنقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة خلافاً للقرارات الدولية وتفرد إدارة ترامب بطرح (صفقة القرن) لحل هذا الصراع على حساب حقوق الشعب الفلسطيني وبالتالي فقدان الأمل بتحقيق السلام في المنطقة.
وجاء الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي مع إيران ليوجه ضربة قاصمة للمصالح الأوروبية ويضع صناع القرار أمام خيارين كلاهما مُرّ للتعاون بين شطري الأطلسي وبالرغم من توجه الدول الفاعلة للمحافظة على الاتفاق ضماناً لمصالحها مع إيران إلا أن ذلك مرهون بموقف دول أخرى في الاتحاد تؤيد الموقف الأميركي وهو ما برز واضحاً في التصريحات الأخيرة الصادرة عن بولندا.
لقد وضعت أوروبا نفسها في موقف صعب عندما تخلت عن دورها وقررت الاشتغال تحت إمرة السياسة الأميركية فهي من جهة غير قادرة عن الاستمرار بالتفاعل الإيجابي مع الولايات المتحدة وفي نفس الوقت عاجزة مجتمعة عن اتخاذ قرار يدفع البيت الأبيض إلى إعادة النظر بسياساته الانفرادية وتعكس الردود الأوروبية التي انحصرت بفرنسا وألمانيا وتمحورت حول فرض ضرائب على بعض السلع الأميركية وتقديم شكوى إلى منظمة التجارة العالمية التي هدد ترامب بالانسحاب منها تعكس الواقع الصعب الذي تعاني منه أوروبا بمواجهة هيمنة الولايات المتحدة.
كل المؤشرات تقول إن إجراءات واشنطن لن تقف عند هذا الحد وهدفها في نهاية المطاف وضع الاتحاد الأوروبي أمام خيارين كلاهما مُرّ الأول الانصياع الكامل للسياسة الأميركية على كل المستويات أو التفكك وبالتالي تفرد الولايات المتحدة بدوله بشكل فرادي.
إن أبرز ما يعبر عن عمق الخلافات بين أوروبا والولايات المتحدة هو ما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لنظيره الفرنسي في لقائهما الأخير بمدينة سان بطرسبورغ الروسية ومفاده أن (روسيا على استعداد لحماية أوروبا).
صحيفة الثورة