دمشق-سانا
خبير موسيقي سوري في علم المقامات الدقيق يقف أمامه كبار العاملين في الموسيقا عاجزين عن سبر اغواره بالتأليف في ضروبه وألوانه ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا أن أمير البزق محمد عبد الكريم هو أفضل عازف على آلة البزق في القرن العشرين فقد كان بارعا في عزفه مبدعا في ألحانه تجاوز كل معاصريه.
أمير البزق الذي احتفى به مهرجان الملحنين السوريين الأول في افتتاح حفلاته بدار الأسد جمع بين الموهبة الخارقة في العزف وموهبة التلحين إلى جانب ثقافته الموسيقية التي ساعدته على تنمية هذه الموهبة والتعبير عنها بشكل علمي.
في أحد أيام عام 1911 في حي الخضر بحمص ولد عبد الكريم في بيت محب للموسيقا والغناء فوالده علي مرعي كان عازف بزق وأمه عماشة ذات صوت جميل وما إن كبر حتى بدأ يتلقى دروس العزف على يد والده وما لبث أن انضم إلى الفرقة الموسيقية الصغيرة المكونة من والده ووالدته وشقيقيه سليم ومحمد وبدأت مواهبه في العزف والغناء من خلال مشاركته مع فرقة أسرته في إحياء الأفراح بحمص.
لم يتابع دراسته العلمية بحسب المرجع العلمي الموسيقي “مبدعو الألحان السورية في القرن العشرين” الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب بسبب تعرضه لحادث سيارة مؤلم ألحق أضرارا بالغة بعموده الفقري وأعصابه إلا أن ذلك الحادث لم يؤثر على عشقه للموسيقا فواصل مسيرته وبدأت شهرة ابن السابعة تنتشر في مدينة حمص فعزف وغنى على مسارحها كما انكب على قراءة الكتب الموسيقية الأمر الذي ساعده على امتلاك ثقافة موسيقية واسعة.
لم تعد حمص تتسع لطموحات محمد عبد الكريم الموسيقية فانتقل مع والدته إلى دمشق بعد وفاة والده ولما يتجاوز العاشرة من عمره وكان يلح عليها أن تشتري له آلة البزق لكن ضيق ذات الحال كان يمنعها من ذلك وكان صاحب محل بيع الآلات الموسيقية واسمه جميل القوتلي يسمع سجاله مع والدته فوافق على إهدائه الآلة إذا تمكن من العزف عليها وبالفعل هذا ما حدث وكان لصاحب المحل فرقة موسيقية صغيرة تضم زوجته وابنته فضمه إلى الفرقة التي
كانت تقيم الحفلات في المنازل الدمشقية وفي نفس الوقت عمل مع ابي شاكر الكركوازاتي” في مقهى النوفرة يرافقه بالعزف في تقديم فقرات كركوز وعيواظ.
وخلال ذلك الوقت تعرف عبد الكريم على الزعيم الوطني فخري البارودي الذي قدم له كل الرعاية وأتاح له التعرف على المجتمع الدمشقي لتكون انطلاقته الموسيقية على مسارح دمشق كما أتاح له الاطلاع على الكتب الموسيقية الكثيرة الغربية منها والشرقية فتزود بالعلوم الموسيقية بالقدر الذي يؤهله ليكون موسيقيا كبيرا.
أولى رحلاته الفنية خارج دمشق كانت إلى حلب حيث أحيا فيها العديد من الحفلات انتزع فيها إعجاب ذواقة حلب وخلال تلك الزيارة تفتحت موهبته في التلحين فوضع أول ألحانه الغنائية لأغنية “ليه الدلال وانت حبيبي” كلمات حسام الدين الخطيب وغناها بصوته.
وخلال وجوده في حلب تعرف على الموسيقي كميل شامبير الذي دعاه لزيارة القاهرة وفي عام 1925 كانت أولى زياراته إليها ودامت سنتين تعرف خلالها على أقطاب الموسيقا في مصر مثل محمد القصبجي وزكريا احمد وداود حسني وأحيا العديد من الحفلات حيث تلقى عرضا لتسجيل أسطوانات موسيقية في ألمانيا.
في عام 1927 سافر إلى أوروبا وكان لهذه الزيارة هدفان الأول العلاج من إصابة العمود الفقري نتيجة حادث السيارة الذي تعرض له والهدف الثاني القيام بجولة على الدول الأوروبية لإقامة حفلات موسيقية فشل بالهدف الأول وحقق الهدف الثاني الذي فاق ما كان يحلم به.
ومن ألمانيا اتجه إلى فرنسا بدعوة من الجالية العربية فيها وأحيا عدة حفلات انتزع فيها إعجاب الفرنسيين قبل العرب وفي إيطاليا أدهش الإيطاليين وخاصة عندما عزف على بزقه لحنين شعبيين لمدينة نابولي وبعد عودته إلى دمشق أخذ ينتقل بين المدن السورية يقيم الحفلات.
في أواخر العشرينيات سافر إلى بيروت وتعرف على عازف البزق اللبناني محي الدين بعيون الذي افتتن بعزفه فقدمه إلى الوسط الفني اللبناني وعاد بعدها إلى دمشق بعد أن ازدادت خبرته في العزف واطلع على طرائق التلحين المسرحي.
وفي عام 1934 زار حلب ثانية يعزف ويغني على مسارحها وخلال تلك الزيارة لحن مونولوجا لسلامة الأغواني عنوانه “لو كنت اعرف هيك الحب” نظم كلماته الاغواني نفسه كما لحن من كلمات شارل ايوب مونولوج “بانكو بانكو عام جديد” وغناه المونولوجيست الحلبي عبد الله المدرس.
في مطلع الثلاثينيات سافر إلى القدس وتعرف على كبار الموسيقيين الفلسطينيين أمثال يوسف بتروني ويحيى السعودي وروحي خماش ومحمد غازي لكن زيارته الأهم إلى القدس كانت عام 1936 لحضور حفل افتتاح إذاعة القدس التي عمل عازفا ضمن فرقتها الموسيقية ثم تولى رئاسة الفرقة واستمر عمله في اذاعة القدس سنتين وخلالها لحن للعديد من المطربين الفلسطينيين منهم فهد نجار وماري عكاوي ومحمد غازي.
وفي عام 1938 افتتحت إذاعة الشرق الأدنى البريطانية في يافا فاستدعته إدارتها وكلفته برئاسة القسم الموسيقي فجلب كبار الموسيقيين من مصر وسورية وأصبحت الإذاعة مقصدا لكبار الفنانين ووضع الشارة الموسيقية للإذاعة.
ولقب بأمير البزق الذي ارتبط باسم محمد عبد الكريم عندما حضر إحدى حفلاته ملك العراق فيصل الأول والتي أحياها في باريس وقال له بعد الحفل “انت امير هذه الالة” فطلب عبد الكريم من الملك كتابا خطيا لمنحه هذا اللقب وبالفعل أصدر الملك كتابا ملكيا بتسميته أميرا لآلة البزق مذيلا بخاتمه.
بعد زيارته الأخيرة إلى القدس مطلع الاربعينيات عاد أمير البزق إلى دمشق ليستقر فيها بشكل نهائي وبدأ يمارس نشاطه في نادي دمشق للموسيقا وقدم ألحانه عبر إذاعة دمشق المحلية التي توقفت عام 1945 وبعد افتتاح إذاعة دمشق الوطنية عام 1947 كان من أوائل من عملوا فيها فقد عزف ضمن فرقتها الموسيقية كما كان يقدم وصلات من العزف المنفرد عبر أثيرها أسبوعيا ووضع لها الشارة المميزة التي تسبق افتتاح البث الإذاعي يوميا.
وتعمق عبد الكريم بآلة البزق حتى كشف أسرارها فأصبحت بين يديه آلة طيعة وتجلت إبداعاته في مناح أربعة المنحى الأول تمثل في ابتكاره مقاما موسيقيا جديدا أطلق عليه اسم “مريوما” والمنحى الثاني قيامه بإجراء تعديل جوهري على آلة البزق فزاد عدد حبساته على الزند من 17 حبسة إلى 38 حبسة وأضاف إليه وترين مزدوجين ما زاد طاقة هذه الآلة وأصبحت تستطيع أداء جميع النغمات.
أما المنحى الثالث في إبداع أمير البزق فتمثل في التأليف الموسيقي إذ كان من رواد التجديد في هذا المجال وتجديده اعتمد على التراث لأن كل تجديد لا يأتي من التراث مصيره إلى زوال حسب تعبيره وصب مؤلفاته الموسيقية ضمن القوالب التي عرفتها الموسيقا العربية فأبدع السماعيات واللونغايات في مقامات موسيقية مختلفة كما وضع مقطوعات موسيقية زاد عددها على 20 مقطوعة من أشهرها “رقصة الشيطان” و”مداعبات الصباح” و “بين الصنوبر” و”مارش” و”تحية العرب” و”المعركة الموسيقية” التي تمثل قمة عبقريته الموسيقية.
وفي المنحى الرابع وهو التلحين لحن ما يزيد على مئة أغنية تعد من روائع الغناء العربي وللأسف لم يصلنا من ألحانه إلا القليل لكونه لحن معظمها للمطربين أو لصوته قبل وجود إمكانية التسجيل وما لحنه لإذاعة القدس ضاع بعد إحراق الإذاعة عام 1948 من قبل عصابات الكيان الصهيوني ومن ألحانه التي وصلت هي رقة حسنك لنجاح سلام ومحتارة ياناس لسعاد محمد و ياجارتي ليلى التي غنتها أولا ماري عكاوي لإذاعة القدس ثم فايزة احمد لإذاعة دمشق وأغنية مناجاة طير للمطربة فتنة وسجلتها لإذاعة دمشق.
أمضى أمير البزق سنوات طويلة يعمل في إذاعة دمشق واذا كانت حياته الفنية غنية فإن حياته الشخصية كانت متواضعة جدا حيث عاش في غرفة صغيرة وفقيرة في حي عين الكرش وحيدا وفي الأشهر الأخيرة من حياته انهارت حالته الصحية وتوفي في 30 كانون الثاني عام 1989 ليوارى إلى مثواه الأخير في مقبرة الدحداح تاركا كنوزا موسيقية ما زال معظمها مخبئا.
رشا محفوض