في ذلك الوقت البعيد، عندما كنّا يافعين وفي طور الدراسة، كانت أحوالنا ضنكه، وبيوتنا تكاد لا تتسّع لضجيجنا وعددنا، وفقر في خدمات الكهرباء، كانت المساجد ملاذنا المفضّل، ندرس فيها، نتمتّع بالضوء، وبالهدوء، والدفء في أيام البرد، وكنّا لقاء ذلك، وغالباً، نحضر حلقات العلم، دروس تحفيظ القرآن الكريم، والفقه، والحديث.
كنّا، غالباً، نلتزم ونواظب الحضور، نستمع، ونتعلّم، ونشعر باحترام كبير للشيوخ القائمين على التدريس في تلك الحلقات الدينية «بامتياز».
ما زلت أذكر بعض أولئك الشيوخ الأفاضل، وما زلت حتى الآن أكنّ لهم كل تقدير واحترام، فقد تعلّمنا منهم سموّ رسالة الإسلام، العدالة والمساواة والأخلاق الكريمة، وسيرة السلف الصالح الذين أسسوا ورفعوا البنيان، تعلّمنا منهم الكثير من المفاهيم السويّة التي أرادها الله سبحانه لخير البشر، والتعايش المشترك بين كل البشر، وأرقى العلاقات الإنسانية، تعلمنا أن لا إكراه بالدين، وأن الله واسع المغفرة حليم عليم، وأن الإسلام دين يسر وأخلاق، وأن المؤمن الحق هو من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولم يفرّق بين أحد من رسله. وتعلمنا من صحيح الحديث صفات الرسول الكريم وسموّ أخلاقه، ونبل سلوكه، وحكمته التي تتماشى مع روح القرآن الكريم، «وما ينطق عن الهوى»، وتعلمنا من روائع أقواله (أنكم أنتم أدرى بأمور دنياكم).. ولست أنسى ما حييت، سلوك ذلك «المتمشيخ» عندما حضرتُ حلقة علمٍ يديرها، وسمعت منه أموراً عجبا، عندما أفكر في فحواها اليوم، أشعر كم كنا نستقبل كل شيء وكل معلومة تأتينا من أيّ ملتحٍ، أو من أي شخص يضع على رأسه عمامة، ويرتدي قفطاناً.
مما قال، أن لو كان أحد منا يمشي في شارع، وطرق سمعه صوت غناء من مذياع بعيد، فقد ارتكبَ إثماً.!! وأن الغناء حرام، والرسم والتصوير ولبس البنطال وتسريح الشعر حرام، وألف فعل من وجهة نظره، كلها حرام بحرام، يتحدث عن العذاب في الدنيا وفي القبر والبرزخ وفي الآخرة، عن جهنم ولظاها، لم أسمع منه لفظاً واحداً عن الرحمة، ومما قال.. لن يدخل الجنّة إلا «فئة محددة».. يومذاك انبرى أحد الجالسين في الحلقة، قال: يا شيخي هل يعني أن «الكسندر فلمنغ» مكتشف البنسلين، ونيوتن ومدام كوري هم حطب في جهنم.؟
استشاط غضباً، أرغى وأزبد، وطرد السائل شر طردة وهو يصيح ويصرخ زنديق.. زنديق.
استفزني الحال وقررت أن أخوض أول تجربة صدام في حياتي مع ذلك «المتمشيخ»، قلت أسأله،ألم يقل الله في كتابه الكريم (من قتل نفساً بغير نفس أو فساداً في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً)، قال نعم، وهو ينظر إليّ بتوحّش، قلت وهذا الذي اكتشف البنسلين ألم يساهم في إنقاذ حياة الملايين من البشر، فهل يدخل النار.؟
نلتُ نصيبي كما ناله صاحبي السائل.
هذا «المتمشيخ» القديم، هو وأمثاله هم من أنتجوا رهط «المتمشيخين» الظلاميين الجدد، أصحاب الفتاوى التحريضية، البعيدة عن روح دين الإسلام، وهم الذين صدّروا للأمّة الفكر المنحرف، واستغلوا جهل العامّة غالباً لحشو عقولهم بأفكار دخيلة بعيدة كل البعد عن سموّ القرآن الكريم ورسالة الإسلام السمحة.
إن ما ظهر على السطح حديثاً، مع مجريات الأحداث التي طالت سورية، وأنحاء الوطن العربي «المسلم» قرعت بشدّة ناقوس الخطر، تفرض علينا الحالّة الشاذّة، وعلى علمائنا الأجلاء، وشيوخنا الأفاضل أن نعيد جميعاً تصويب خطابنا الديني بما يتماشى مع روح القرآن الكريم، والسنّة الصحيحة المشرّفة، والتفرّغ «لقمع» الجهل، وإيقاظ الوعي، ووضع ذلك كله على سلّم الأولويات الواجبة.
بقلم: عدنان كنفاني