ببساطة تامة، وادعاء معهود بالحيادية، كشفت وزارة الخارجية الأمريكية في تقريرها السنوي الجديد عن الإرهاب “عن تدفُّق غير مسبوق للمقاتلين الأجانب إلى سورية”، مضيفة: “حتى أواخر كانون الأول الماضي، سافر 16 ألف مقاتل أجنبي إلى سورية وهو ما يزيد على معدَّل أولئك الذين سافروا إلى أفغانستان أو باكستان أو العراق أو اليمن أو الصومال، في أي مرحلة في الأعوام العشرين الماضية”.
وبالطبع، لم نكن في سورية، ننتظر تقرير الخارجية الأمريكية لمعرفة ذلك، بل إننا وثّقنا، ومنذ اليوم الأول، في رسائل رسمية إلى مجلس الأمن الدولي والأمين العام للأمم المتحدة، هذا الأمر وغيره الكثير، كما إننا لم ننتظر، أيضاً، أن يتطرّق التقرير إلى طرق الوصول، وأماكن التجمّع، وأسماء مقدمي التسهيلات اللوجستية، والممولين، أفراداً ودولاً ومصارف، لشحنات الأسلحة الهائلة الموضوعة بتصرّف هذا الجمع الغفير من المرتزقة والإرهابيين، بسبب معرفتنا المسبقة بأن واشنطن، مع ثلّة من أتباعها، تعتبر الإرهاب إحدى الأدوات الرسميّة والفعّالة للسياسة الخارجية الدولية، وبالتالي يصبح خلو التقرير من تحديد المسؤوليات عن العبور العلني، وعبر المعابر الشرعية وغير الشرعية، للحدود السورية مع دول الجوار، أمراً أكثر من مفهوم.
بيد أن التقرير، وعلى الرغم من مثالبه واجتزائه للمعلومات والحقائق، يوضّح، من حيث لا يريد، لكل جاهل أو متجاهل، حجم الهجمة الشرسة وغير المسبوقة التي تتعرض لها سورية، سواء بعدد الإرهابيين، أو مستوى تسليحهم وتمويلهم، أو عدد أجهزة المخابرات، وغرف العمليات التي تسيّر كل هذه الجحافل وتوجهها، والمهم أنه يوضح أيضاً، ولو بصيغة المسكوت عنه، حجم قوة الدولة السورية، وصمودها الأسطوري في معركة تجاوز مداها الزمني، حتى الآن، العمر الزمني الكامل للحرب العالمية الثانية، التي رفعت فيها باريس ذاتها الرايات البيضاء أمام الغازي الألماني، بزمن أقل من هذا بكثير.
لكن، ولأن “التاريخ لا تحركه الصدفة”، فإن تزامن توقيت صدور التقرير، مع توقيت تسريب وثائق “ويكيليكس” الأخيرة عن “مملكة الرمال”، وهو توقيت استخباراتي كما تدل الحالات السابقة، وتوقيت توقيف إعلامي إرهابي “قاعدي” يعمل في “قناة الجزيرة”، وهو توقيت لافت أيضاً حتى لو لم يسفر عن شيء جدي، كل ذلك يقول، ببساطة أيضاً: إن المعركة مستمرة، وإن كانت أدوات المواجهة قد تتغيّر في المرحلة المقبلة، فبعد الحريق الذي طاول ثوب السلطان العثماني، يبدو أن شيئاً ما قد بدأ يحترق في بيت فريق خليجي-لبناني، ليس لأنه أصبح فريقاً مقاوماً للأطماع الأمريكية في المنطقة، بل لأنه فشل بداية في كسر الصخرة السورية بالسرعة المطلوبة، كما فشل نهاية في فهم، أو قراءة، حركة “الإدارة”، وبكلمة أدق “المؤسسة” الحاكمة في واشنطن- وهي للمناسبة فوق الجمهوريين والديمقراطيين- التي بدأت خطوات جدية في توجهها شرقاً، لمواجهة الخطر الصيني الأكبر، ما يعني أنها لا تستطيع انتظاره طويلاً في سعيها لترتيب البيت الشرق أوسطي بما يناسب توجهاتها للمرحلة المقبلة، وهي مرحلة تاريخية مفصلية، تطير- في أمثالها- رؤوس، وتتغيّر حدود وأنظمة كانت تظن أنها عصية على التغيير.
هل هذا يعني أن الحرب انتهت، بالتأكيد لا، فهناك دور يحضّر للاعبين آخرين، بأدوات تدخل جديدة، بالتوازي، قطعاً، مع استمرار وسائل التدخل الإرهابية الحالية لمرحلة قد تطول وقد تقصر، ليس بحسب المشيئة الأمريكية فقط، بل بحسب حجم المقاومة والصمود المقابلين.
أحمد حسن