أقحمت دراماتيكية أحداث “النكوص العربي” سؤالاً شديد القسوة والوقع على من يطلقه ومن يسمعه، يستفسر بإلحاح عن موقع “إسرائيل” الجديد في إحداثيات الضمير العربي، وعن التجليات الفعلية لمصطلح “عدو” والحيّز المخصص لتموضعه في الذاكرة الجمعية الآنية والمستقبلية للأجيال.
حتى لو لم يكن ثمة إجابة حاسمة وسريعة مطلوبة أمام الكم الهائل من الأوراق المختلطة، بفعل صدمات التحوّل و”التعرّي” السافر، إلّا أن ثمة بوصلة للقيم المعنوية والوطنية والقومية، لابد من تحديد اتجاهاتها اليوم، وسبر عمق الخطر الذي يتهدد الوعي العربي قبل الجغرافيا. فهل سقط كل حديث ممكن عن قضايا المصير العربي، وسط زحام الضجيج الذي أحدثه هدير محركات طائرات “التحالف العشري” المتجهة إلى سماء اليمن لإبادة المدنيين وانتهاك السيادة هناك؟!. وهل أمسى الشارع العربي – بمناهجه التربوية وأدبيات الرأي العام فيه – أمام انعطافة حادة وخطيرة بل كارثية في المفاهيم، ليس في الأفق ما هو أخطر منها إلّا احتمالات استيعابها في عشر عواصم عربية كشف ساستها عن عوراتهم، وأعلنوا الولاء لـ”إسرائيل” عبر البوابة السعودية التي أطلق “الحاكمون بأمرها” بداية حقبة طويلة الأمد عنوانها “التصالح مع الذئب”، بلا حياء من الشعوب ولا وقار لـ”براميل” من الدماء- كل قطرة منها أهم مليار مرّة من براميل نفطهم- أزهقتها عقود الصراع المرير مع عدو أزلي وتقليدي، كان عنوانها القضية الفلسطينية وما يتفرع عنها من تحديات لا يمكن وصف أبسطها بأقل من ” مصيري ومحوري”؟!.
إننا أمام تحوّلات تتعدى في أبعادها مجرد حمولة طائرة عربية تفرغ فوق رؤوس أبرياء عرب في اليمن، أو دولارات بترول “طال عمرك” التي تُجَيّر إلى قذائف حقدٍ وارتزاق لـ “بتر عُمر” كل ما هو سوري الهوية والانتماء، تحولات تشي باستتباعات غير مألوفة ستذهب في أحد اتجاهين لا ثالث لهما، فإمّا نسف بنية الوعي القومي، أو صدمة استنهاض تنتج ربيعاً عربياً حقيقياً، ولمن يسألنا فإننا نرجح الاحتمال الثاني، ولدينا من القراءات غير البعيدة عن سياق المجريات الراهنة، ما يدعم وجهة النظر هذه.
فلا نعتقد أن الشارع السعودي يمكن أن يكون أمام رض معنوي أكثر من ذلك الذي أنتجته متابعة وثائق فضائح المصافحة الدافئة بين عدوهم التقليدي وقادتهم، وعمليات التقويض السافرة لمنظومة القيم التي نشأت عليها الأجيال، وسيكون هناك ردة فعل طبيعية مفترضة، خصوصاً في ظروف العلاقة الهشة التي باتت تربط الشعوب في دول “الهذيان” العربي بزعمائها؟، وهل يمكن أن يسلّم عاقل بأن عربياً حقيقياً سيشعر بالاسترخاء وهو يستمع إلى “تبشيرات نتنياهو” بصداقة طويلة الأجل مع آل سعود، أو تابع مشاهد “العناق المشبوه” في ميونخ بين تركي الفيصل ودان يالون، أو بين تركي بن سلطان ومئير شطريت في موناكو؟!.
ثم هل يمكن أن يشعر عربي بالرضا والأمان أمام متوالية القرائن التي تؤكد أن عصابات بهيئة قادة تدفع المنطقة قاطبة باتجاه حروب ذات طابع طائفي بغيض، وآخرون يروجون لما يشبه “صكوك الغفران” ويحجزون المطارح في “الجنة” لهواة اللهو مع حوريات أحلام المنتحرين على عتبات حظائر تجميع المرتزقة؟!.
وهل سيبقى شعب الخليج منتشياً برائحة البترول، وساهياً عن مغامرات ” مشائخ” من شأنها أن تودي بكل ما أنتجه خليجهم من سباق نحو الترف والرفاهية، إلى الجحيم في أقل مواجهة يمكن أن تحصل مع أي طرف خارجي؟!.
على الأرجح بدأت ملامح الصحوة في الشارع العربي، وبدأت أصوات قادة رأي بإطلاق الهواجس من عواقب “الرقص على جماجم الأبرياء”، وبدأنا نسمع تصريحات لمتمولين خليجيين -ولو همساً – تقرع أجراس إنذار مدوية حول مستقبل أمن شعب الخليج وثرواته ورفاهيته، والتهديدات التي تحيق به جراء قرارات الخرف المبكر والزهايمر.
صحوة لا بد ستنتج حراكاً، لا نعتقد أن ناره يمكن أن تخبو بسرعة، لأن وقودها أكثر فعالية من إجمالي المخزون الاحتياطي لنفط الخليج، وإن غداً لناظره قريب.
بقلم: ناظم عيد