الشريط الإخباري

في هندسة الوعي الجمعي وتزييفه

تشي النظرة الأعمق والأبعد غوراً تحت سطح الأحداث المتتالية بسرعة كبيرة على امتداد أرجاء منطقتنا، إلى أن ما حدث لم يكن ابن ساعته، على ما يريد البعض منا أن نصدّق، بل هو نتيجة مسار طويل متعرّج ساهم به الجميع، البعض بعلمٍ والبعض من دونه، لكنهما معاً، العالم والجاهل، رفعا، في النهاية، عَلمَ “داعش” وتلحفاه.
وكي لا نغوص بعيداً في تاريخ الصراع على المنطقة والسيطرة على مقدراتها، عبر مشاريع عدة، فإن فشل تطبيق الطبعة الأخيرة من هذه المشاريع، أي “مشروع الشرق الأوسط الجديد”، بالقوة الصلبة في حرب تموز 2006، دفع الرعاة لمحاولة تطبيقه بالقوة الناعمة، وهي قوة تتبع، من جملة ما تتبع، أسلوب “الهندسة الاجتماعية” لإعادة صياغة الوعي الجمعي للمجتمعات المستهدفة بالكامل. فالمسألة لم تعد محاولة خلق أنظمة سياسية عميلة عبر عمل عسكري مباشر أو غير مباشر، بل خلق مجتمعات “عميلة” عبر تدخل ثقافي ناعم، بالمعنى الشامل لكلمة ثقافة، وإذا كان ذلك صعباً لاستحالته المنطقية، فالأفضل، وهو ما حدث، خلق مجتمعات جاهلة تقتتل فيما بينها، ومع الآخرين، على قضايا زائفة، وتستعيد صراعات تاريخية سابقة تمنحها أولوية مطلقة على المشاكل والقضايا الراهنة.
وإذا كان هذا الأمر مما يطول الكلام به، فإن ما يعنينا منه أننا، كعرب، نساهم، كوكلاء، بمقدراتنا المادية والمعنوية الهائلة، في هذه “الهندسة”، وهو ما يمكن رؤيته في “جهود” مفكرين ومحللين ووسائل إعلام “عربية” لترسيخ صورة جميلة للمحتل الأمريكي والإسرائيلي، وشيطنة مقاومتهما، حيثما وجدت، فبعد وصف الغزو الأمريكي للعراق بـ “التدخل الإنساني الضروري”، أصبح “الاحتلال الإسرائيلي يمارس ضبط النفس في وجه الإرهاب الفلسطيني”، أما الإرهاب الحقيقي فقد غدا “ثورة” مجيدة عبر مصطلحات براقة لفظاً متناقضة معنى ومستحيلة مبنى، مثل “المعارضة المسلحة المعتدلة” في سورية، أو “ثورة العشائر” في العراق، والتي أعفانا “الخليفة البغدادي” من مغبة تبيان زيفها عبر بيانه الجهادي العلني مؤخراً في أكبر مساجد الموصل.
وفي هذا الإطار يمكن لنا أن نلاحظ ارتقاء هذه “الهندسة” إعلامياً إلى مرحلة جديدة، تتمثل بتبرئة رعاة الإرهاب من هذه الصفة وإلصاقها بالضحايا، وربما كان أبرز مثل على ذلك، محاولة “حلف داعش” ترسيخ فكرة أنه المستهدف من “داعش” ذاتها، وهذا، إذا كان حقيقة، فليس إلّا من قبيل ارتداد السحر على الساحر، فقد أصبح من الواضح لكل ذي بصيرة، إلّا من أعمي على قلبه بالدولار والدينار والإعلام الإرهابي، أن “داعش”، وأمثاله، ينهل من البيئة الفكرية والمالية الخليجية، ويستند إلى الدعم اللوجستي العثماني، والرعاية الأمريكية الكاملة.
بهذا المعنى فإن معاداة “أوباما” وأتباعه اللفظية له ليست إلّا من لغو الكلام، وانتقاد “القرضاوي” أو “أبو محمد المقدسي” و”شيوخ الوهابية” لإعلانه الخلافة ليس سوى غيرة أهل الكار الواحد، فالفرق بين “البغدادي” و”القطراوي” وأضرابهما ليس في النوعية، بل بالدرجة فقط لا غير.
إذاً هي معركة إعادة “هندسة الوعي الجمعي” وتزييفه، ولنعترف، هم نجحوا في ذلك حتى الآن، فأين فلسطين اليوم ومحرقتها المستدامة؟، بل أين “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”؟، لقد خلت الساحة فقط للكلام، الموجّه والمقصود، عن تناقضات مذهبية وعرقية داخلية قد تستغرق حروبها قرننا الحالي بطوله، لكن التاريخ، وهو خير معلم، يزوّدنا بحقائق ودروس، نكتفي منها بدرس سوري قريب نوعاً ما يقول: “على حقل السياسة الداخلية السورية جرت المعارك الحاسمة من أجل حلف بغداد ومبدأ ايزنهاور”، بحسب “باتريك سيل”، وهي معارك انتصرت بها سورية التي “لا تقف مستسلمة حتى يفوز بها هذا أو ذاك، فهي ستظل عربية أو لا تكون”.
هذا درس تاريخي، وعلينا دائماً إعادة اجتراحه في صبيحة كل يوم جديد، وهذا عين ما هو مطلوب من كل سوري شريف.
بقلم: أحمد حسن