لفهم السياسة الفرنسية العدوانية تجاه سورية والعرب عموماً، لابد من العودة إلى الانتخابات البلدية الفرنسية التي أجريت أواخر آذار العام الماضي 2014 والتي خسر فيها الاشتراكيون، وحققت قوى يمين الوسط نجاحاً ملفتاً، وحصد حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية أكبر عدد من الأصوات، حيث حصل على /49%/ من أصوات المقترعين، في حين حصل الحزب الاشتراكي بقيادة فرانسو هولاند على /42%/ من الأصوات، ونالت الجبهة القومية برئاسة جان مارين لوبان أفضل نجاح لها خلال تاريخها بحصولها على ألف مقعد بلدي على مستوى عموم فرنسا.
وجرت الانتخابات في ظل تدني شعبية فرانسو هولاند، وتوقع الكثير من المحللين والسياسيين بأن يقدّم استقالته من الحكومة الأقل شعبية أي الذين حصلوا على أقل الأصوات وفي مقدمتهم وزير الخارجية لوران فابيوس ووزير الداخلية وقتها مانويل فالس، إلا أنهم لم يبالوا، وأصر فابيوس على البقاء في مكانه، بينما أصبح فالس رئيساً للوزراء في /31/ آذار الماضي، أي في نفس الوقت الذي بدأ المؤتمر اليهودي العالمي اجتماعاته في باريس، والذي يطلق على نفسه اليد الدبلوماسية للشعب اليهودي.
وتولى دافيد دي روتشيلد قيادة المؤتمر، فيما ترأس روجي كوكيرمان الاتحاد التمثيلي للمؤسسات اليهودية الفرنسية، وكان دورهما الإشادة بما أسمياه نضال رئيس الوزراء الجديد فالس ضد العداء للسامية واعتبرا أن القرارات التي اتخذها للحد من حرية الكلمة شرعية وقانونية، وحصل الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند على تقييم عال في المؤتمر وكان ممثلاً فيه بجاك أتالي.
ولقد قرَّب هذا الاجتماع بما لا يقبل الشك بين الرئيس الفرنسي ورئيس وزرائه ووزير خارجيته وبين اللوبي الصهيوني العالمي، خاصة وأن فالس يلعب دوراً خاصاً، ولافتاً في العلاقة مع الحركة الصهيونية، ولديه علاقات واسعة مع اتحاد المؤسسات اليهودية في فرنسا التي هي عماد اللوبي اليهودي في فرنسا، ومع اللجنة اليهودية الأمريكية، ومركز سيميون فيزينتال والمنظمة الصهيونية اليهودية وهي “الشبكة الأوروبية القيادية” التي تأسست عام /2007/ وتسوق لمصالح الدوائر الرأسمالية اليهودية في أوروبا وتقوم بدور سياسي نشط في باريس.
وقد لعبت على سبيل المثال الدور الأساسي في سياسة فرنسا المعادية لإيران وموقفها المتشدد جداً بخصوص البرنامج النووي السلمي الإيراني، وهذا ما أكده رئيس المنظمة رجل الأعمال المعروف في شيكاغو لاري خوخبرغ وهو الشخصية المعروفة في اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة الأمريكية “إيباك” ورئيس جمعية أصدقاء ما يسمى “قوى الدفاع عن إسرائيل” خلال تصريح له في المجلّة الأسبوعية التي يصدرها التجمع اليهودي في كاليفورنيا قبل أسابيع، وفيه أعلن أن منظمته نجحت بالتأثير على قادة الدول الأوروبية وأن استرشاد السياسة الفرنسية بإسرائيل يعود إلى التوافق بين نظرة فرع “شبكة القيادة اليهودية في فرنسا” وبين قصر الإليزيه.
علماً أن المنظمة اليهودية “شبكة القيادة الأوروبية” تقوم بشراء المسؤولين في فرنسا، وعن طريقها يتم كل عام تحويل مبلغ مليون ونصف مليون دولار لبعض السياسيين الفرنسيين المقربين من اللوبي الصهيوني والذين يخدمون السياسة الإسرائيلية.
وباعتراف خوخبيرغ نفسه، فإنه خلال الانتخابات التي جرت عام /2011/ تم تحويل ثلث المبلغ لهولاند لمساعدته في التغلّب على منافسته مارتين أوبري التي تعتبرها تل أبيب معادية لإسرائيل لموقفها الداعم للحقوق الفلسطينية.
وبشكل مكشوف وخلال سنوات عديدة دعمت الصحافة الصهيونية الفرنسية هولاند بشدة للوصول إلى قصر الاليزيه، وللتأكيد على مدى تأثير الحركة الصهيونية على هولاند، فقد أشار خوخبيرغ إلى أنه رافق الرئيس الفرنسي خلال زيارته إلى إسرائيل في تشرين الثاني عام /2013/ كما رافقه خلالها المدير التنفيذي للمنظمة الصهيونية “شبكة القيادة الأوروبية” أرييه بينسيمون والتي يدخل فيها مجلس المؤسسات اليهودية الفرنسية الذي يرأسه كوكيرمان.
ويذكر بأنه ضمن ما سمي “الحوار الاستراتيجي .. فرنسا-إسرائيل” والذي أداره الفرع الفرنسي للشبكة اليهودية الأوروبية بالتعاون مع وزير الدفاع الفرنسي، فقد تم تنظيم العديد من رحلات وزيارات نواب فرنسيين وصحفيين إلى إسرائيل، وهم يمثلون أبرز الصحف الفرنسية “لوموند – لوفيغارو ماريان- ليبراسيون- لوبوان – نوفيل – أبسيرفاتور- ليكسبرغ”.
وعلى هذه المنظمة الصهيونية ” شبكة القيادة الأوروبية” يعتمد مانويل فالس أحد أعضاء المنظمة الماسونية المغلقة لوشيكل وتعني “القرن” التي تجمع في صفوفها ممثلي الطبقة الحاكمة في فرنسا، وكان أعلن في حزيران /2011/ عندما كان محافظاً لمدينة “إيفري”: “إنني من خلال زوجتي أرتبط إلى الأبد مع المجتمع اليهودي ومع إسرائيل” كما أعلن في آذار /2012/ في أول مؤتمر للجاليات اليهودية في فرنسا أن “إسرائيل هي المركز الروحي ليهود العالم” وفي نيسان نفس العام وخلال حضوره ما سمي “مؤتمر أصدقاء إسرائيل” وقّع الوثيقة الصهيونية التي سميت “ميثاق إسرائيل” ورحب فالس بالتعاون بين الجمهورية الفرنسية واليهودية الفرنسية, منتقداً العداء للصهيونية الذي يعادل حسب قوله العداء للسامية وهو عداء غير مسموح به نهائياً.
وفيما يسمى رأس السنة اليهودية عام /2012/ أعلن بأن اليهود يستطيعون ارتداء قبعاتهم، وأن الارتباط الوجودي البدني الجسماني ليهود فرنسا بوطنهم لا يمنع ارتباطهم بأرض إسرائيل، وهذا يتعارض بشدة مع تصريحاته بأن جميع المواطنين الفرنسيين يجب أن يدينوا بالولاء فقط للدولة الفرنسية.
وفي شباط عام /2014/ وأثناء حضور لقاء وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان مع وزير الخارجية الفرنسي فابيوس ومع برلمانيين فرنسيين وقادة الجالية اليهودية في فرنسا والذي لم توله وسائل الإعلام الفرنسية أي اهتمام، أعلن فالس: “خلال قيامي بواجباتي اليومية وخلال حياتي كلها وفي كل ما أقوم به وأفعله أسعى لوضع حجري المتواضع في مدماك بناء إسرائيل”.
والواقع أن ارتباط فالس مع المؤسسات الصهيونية يعود ليس فقط لكون زوجته يهودية، وإنما لارتباطاته الفكرية مع الصهيونية، ففي بداية أيار عام /2011/، وبوجود العديد من السياسيين الفرنسيين اشترك في برنامج معهد “بروجيه اينترشانج” الذي أسسه المعهد اليهودي الأمريكي /AEK/ عام /1982/ بهدف دفع السياسيين، والمسؤولين الحكوميين من مختلف الدول، وخاصة الأوروبية للقيام بتبييض صفحة إسرائيل، وتقديم صورة إيجابية عنها، ومن أجل ذلك قام /AEK/ خلال /30/ عاماً بتنظيم المؤتمرات، وإعطاء المحاضرات، واللقاءات، ويتم تنظيم زيارات ورحلات إلى إسرائيل، ويتم اختيار الشخصيات المؤثرة، وأصحاب رؤوس الأموال، والشخصيات الاقتصادية، والأدبية، والصحفيين، حيث تقوم بربطهم مع بعضهم للتوافق على سياسة واحدة، وموقف واحد داعم لإسرائيل، وكل مشارك في البرنامج يكلف المنظمة المذكورة /5000/، وما يلفت الانتباه أن فالس بدأ نشاطه في هذا البرنامج في اليوم ذاته الذي اعتقل فيه دومونيك ستروس، وكان حينها في زيارة لنيويورك، والذي كان المنافس الرئيسي لنيكولاي ساركوزي في الحزب الاشتراكي، وكان يتفوق عليه في استطلاعات الرأي.
تعود أيضاً علاقات فالس القوية مع الصهاينة إلى ثلاثين عاماً من الصداقة مع أحد قادة الحركة الصهيونية، والخبير في مجال الإعلام ستيفان فوكس الذي شغل منصب وزير الأمن الداخلي في عهد ساركوزي، وتربطه علاقات وثيقة مع المنظمة الصهيونية، وأجهزة الأمن الإسرائيلية، والأمريكية.
إن تعيين فالس رئيساً للوزراء في فرنسا شكّل تحدياً من قبل القيادة الفرنسية للمجتمع الفرنسي، والذي بيّنت الانتخابات البلدية رفضه لسياسات هولاند الداخلية، والخارجية، وكان أول ما فعله رئيس الوزراء الجديد استقبال مدير البنك الفرنسي الأمريكي لازار ميتيو بيغاس الذي يعد صاحب وسائل الإعلام الفرنسية التي تقع تحت التأثير الصهيوني، وهو المستشار السابق لـ “تراس كانا” المصرفي الكبير المقرّب من وزير الخارجية الفرنسي فابيوس.
إن حزب هولاند يمثل مصالح الجهات الحاكمة، وأصحاب رؤوس الأموال الممثلين في منتدى /ВИК/ الذي يعتبر حلقة في شبكة صهيونية منتشرة تنشط في أنحاء العالم، ولذلك لا نستغرب دعم الحكومة الفرنسية للكيان الصهيوني، ووقوفها ضد الحقوق العربية، والفلسطينية.
ففي /19/ آذار العام الماضي طالب حزب الاتحاد الشعبي الجمهوري الذي يضم عدداً كبيراً من المفكرين الفرنسيين في بيان له باستقالة وزير الخارجية فابيوس بسبب سياساته التي لا تخدم نهائياً المصالح الفرنسية في العالم، وجاء في البيان: “منذ بداية عمله السياسي ارتكب فابيوس أخطاء كثيرة لم تحصل في التاريخ الفرنسي، مسترشداً بالسياسة الأمريكية التي أدّت إلى تقويض مصالح فرنسا الدبلوماسية، والأخلاقية، والاقتصادية، وتتعارض مع مبادئ القانون الدولي”، واعتبروا أن سياسته التي تتبع ازدواجية المعايير حوّلت فرنسا إلى دولة منافقة، وهامشية.
وفابيوس لمن يجهله هو يهودي الأصل، ومتعصب لإسرائيل، بما تمثله من عدوانية، وعنصرية، واستعمار، وتشريد، وقتل، وتعذيب، وخرق حقوق الإنسان، وهو من أشد أصدقاء برنار كوشنار، وبرنار هنري ليفي، وهما صهيونيان من أشد المناصرين للكيان الإسرائيلي، ومشروع تفتيت الوطن العربي، ولا يخفى على أحد أن برنار هنري ليفي هو مهندس العدوان على ليبيا، وما يسمى الربيع العربي.
ويعتقد الكثير من المراقبين أن تعيين فابيوس على رأس الدبلوماسية الفرنسية جاء بضغط من اللوبي الصهيوني الذي دعم فرانسوا هولاند الذي ينتمي هو الآخر إلى عائلة يهودية في الانتخابات الرئاسية ضد المرشّح اليهودي الآخر نيكولا ساركوزي، وذلك لتحمسه الشديد لضرب سورية وإيران، وتأكيداته المتلاحقة على علاقات الصداقة الوثيقة بين فرنسا وإسرائيل.
وقد دعم العدوان الإسرائيلي على غزة، واعتبره دفاعاً عن النفس، وأدان بشدة إطلاق الصواريخ من قطاع غزة على إسرائيل التي جاءت رداً على العدوان الإسرائيلي الذي راح ضحيته آلاف المواطنين الفلسطينيين، واعتبر أن الحكومة الإسرائيلية تملك الحق باتخاذ كافة الإجراءات لحماية الصهاينة.
وتقصّد في أول زيارة له إلى الجزائر اصطحاب وفد من منظمة طلابية صهيونية فرنسية “اتحاد طلبة يهود فرنسا” التابعة لمنظمة “الكريف” الصهيونية بفرنسا، وعبّرت المنظمة عن سعادتها وامتنانها لهولاند لتمكينها من دخول الأراضي الجزائرية حسب وصفها.
وكان كبير حاخامات فرنسا جوزيف سيتروك عام 1990 أبلغ رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأسبق اسحاق شامير: «إن كل يهودي فرنسي هو ممثل لإسرائيل، وطمأنه بأن كل يهودي في فرنسا يدافع عمّا تدافع عنه وسائل الإعلام الإسرائيلية».
لقد نبّه الجنرال ديغول في بداية القرن العشرين من تصاعد التأثير الصهيوني في فرنسا، مؤكداً وجود لوبي يهودي موال لإسرائيل في فرنسا، وتكشف السياسة الفرنسية الحالية تجاه الوطن العربي، وخاصة سورية، مدى صدقية ما حذر منه الجنرال ديغول من تنامي تأثير هذا اللوبي في فرنسا، وتحكمه في السياسة الفرنسية الخارجية التي أصبحت عملياً تنفذ أجندات إسرائيلية وصهيونية بحتة.
د. محمد قاجو